السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"جيش الشعب".. مفهوم مصري خالص

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بين «جيش الدولة» و«دولة الجيش»، تتأرجح المؤسسات العسكرية، معبرة عن حقيقة الأوضاع الديمقراطية السائدة في مجتمعاتها، ومدى ما قطعته على طريق إنجاز مقتضيات الدولة المدنية، كوجه معروف للدولة الحديثة المنوط بها تجسيد مجمل التطورات التي أنتجتها التجربة الإنسانية، بما حملته من دروس قاسية عبر وجوهها الدينية والعسكرية. 
بيد أن تفردًا تاريخيًا ينال من المؤسسة العسكرية المصرية، على نحو ملهم، يقودنا إلى تشكيل مفهوم «جيش الشعب» نتجاوز معه بسهولة حدودا كثيرة من الصيغ التقليدية القاصرة عن استيعاب حقيقة ما أسهم به «الجيش» في بناء وترسيخ أول دولة في التاريخ، بما حملته من دروس أفادت منها الإنسانية قاطبة. 
وعليه، فليس القصد مقاضاة مبادئ معاصرة تحتجز الدولة الديمقراطية الحديثة بعيدًا عن مرمى نيران المؤسسات العسكرية، وإن كان الأمر على هذا النحو جدير بالبحث في جوهره، ومحتواه من الموضوعية، وفق ما تفيض به الحالة الوطنية.
ولذلك لا ينصب الحديث حول شخصيات عسكرية، شقت لنفسها ولبلادها مسارات سياسية بالغة التقدم، لا يمر التاريخ بعيدًا عنها، متى التزم الموضوعية. 
فربما أثار حديث كهذا ثائرة «البعض» فنغرق معهم في سرد مفصل لطغاة من العسكريين امتلأ بهم جوف التاريخ، يسهل علينا مجاراتهم بويلات إنسانية شتى لا «عسكرة» فيها.
وربما تضيف مساجلات من هذا النوع البغيض تراجعا معيبا يضاف إلى المستوى المتدنى للموضوعية في نقاشنا العام.
كذلك فإن موضوعية نبحث عنها، نلتزم بها، ونتخذ منها معيارًا أساسيًا، لا يفيد معها إعلاء شأن مقولات تاريخية تحمل رؤى إنسانية راقية لقادة عسكريين بلغوا قمة المواقع السياسية في بلادهم. فأيزنهاور، أول قائد أعلى لقوات حلف الناتو وقد أصبح الرئيس الأمريكى رقم ٣٤ في الفترة من ١٩٥٣ - ١٩٦١، هو القائل «كل بندقية تصنع وكل سفينة حربية تدشن وكل صاروخ يطلق هو في الحسابات الأخيرة عملية سرقة للقمة العيش من فم الجياع ومن أجساد الذين يرتجفون من شدة البرد ويحتاجون إلى الكساء». 
ففى المقابل لن يعدم التاريخ مقولات أخرى لقادة عسكريين لطالما عانت البشرية كلها جراء ما جسدته من رؤى، وما انعكست فيه من مواقف وممارسات تجابه شكلا ومضمونا ما جاءت به كل القواعد الديمقراطية.
والحال أيضا أن حديثنا لا ينبغى أن تحده الرغبة في استلهام الدور التاريخى الفارق لبعض الزعماء أصحاب الخلفية العسكرية، فليس من شك أن جملة منهم أفادوا كثيرًا بقيم ومبادئ العسكرية للنهوض بمسئوليات وطنية تحتمها لحظات استثنائية من عمر الوطن، ومن هؤلاء جورج واشنطن أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة والقائد العام للقوات المسلحة للجيش القارى أثناء الحرب الأمريكية الثورية، وأول رئيس أمريكى «١٧٨٩-١٧٩٧» ولعل المدهش، لمحترفى ومعتنقى الصيغ الجامدة للفكر السياسي، أن جورج واشنطن هو الذي أنشأ ورسخ مبدأ «الانتقال السلمى» للسلطة حين نقل السلطة من رئاسته إلى رئاسة جون آدمز، رافضًا الترشح لفترة رئاسية ثالثة، واضعًا الأساس لمدة أقصاها ولايتان للرئيس، والذي بات من المبادئ الأساسية لنظم الديمقراطة المعاصرة، إلى جانب استحداثه جملة من الأشكال والطقوس الحكومية ومن ثم حاز الرجل في حياته، عن مجمل أعماله وأفكاره، لقبه الأثير «أب لبلاده»، والواقع أن امتدادات شائعة لجورج واشنطن وغيره من «آباء بلادهم» ربما لا تجد ما يدعمها كثيرًا في التاريخ الحديث.
بيد أن تفرد العلاقة بين الجيش والشعب على أرض مصر جدير بطرح منتج فكرى لا يفقد أصوله الوطنية، ففى إطار ما يخوضه الوطن من عملية تحول ديقراطى لا يمكن الزعم بإدراك النجاح، ما لم ننجز تأسيس دولة ديمقراطة حديثة، فحين التف الشعب في الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٥٢ خلف شباب القادة العسكريين الذين استلهموا من آلام وآمال الناس حركة ثورية، نجحت قدر وطنيتها، وأخفقت قدر ما استبعدته من المكون السياسي للقوة المصرية، إلا أن دعم الشعب النابع من مكانة الجيش في العقيدة الوطنية أضفى عليها مشروعية حازت بموجبها مصداقية جعلت منها مصدر إلهام لكثير من الشعوب المقهورة، ما مثل مفهوم القوة الناعمة لمصر في صيغة معاصرة، فقد الوطن كثيرًا إذ تراجعت جراء ممارسات أنظمة لم تكن معنية بالإضافة إليها، فخصمت منها كثيرًا.
ثم كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير عام ٢٠١١، فتبادل الشعب والجيش طرفى المعادلة الثورية على أساس وطنى خالص، إذ التف الجيش يحمى ثورة أبناء الوطن، رافضًا الانحياز إلى رئيس لديه خلفية عسكرية طويلة، فكان مفهوم «جيش الشعب» حاضرًا بقوة، حاكمًا للمسئولية الوطنية على كل مستوياتها.
ومن رحم مفهوم «جيش الشعب» وشيوع اليقين به في التجربة الوطنية، نهض الشعب يصحح مسار ثورة يناير في الثلاثين من يونيو عام ٢٠١٣، ملقيًا على مؤسسته العسكرية مسئولية أداء واجباتها التقليدية تجاه تنفيذ الإرادة الشعبية الحرة دون النظر إلى اعتبارات أخرى. 
وعلى هذا النحو مضت الثورة المصرية تؤسس لدولة مدنية حديثة، لها من المتطلبات ما ينبغى أن يحوز أولوية لا تحدها رؤى جامدة، ما أفضت إلى خيال سياسي تحتاجه المرحلة الاستثنائية الراهنة. 
والشارع السياسي زاخر بعناوين كثيرة تكشف كم باتت محتوياته البالية منقطعة الصلة عن قيم الثورة!. ولا شك أن مفهوم الدولة المدنية، يشير إلى المؤسسة العسكرية باعتبارها مؤسسة دستورية سيادية، تتمتع بالاستقلال، وتلتزم الحياد تجاه النظام السياسي، إلا أن المهمة الأساسية لها، كحماية الأمن القومى، لا تتيح بديلا مقبولًا أمام حتمية انحيازها للإرادة الشعبية، فيما يستدعى مفهوم «جيش الشعب»، كصيغة وطنية فريدة لمسار الدولة المصرية عبر تاريخ يمتد إلى ما يفوق قدرة المساحة المتاحة عن ذكر موجز له.
غير أن ضرورات المرحلة تدلى هي الأخرى بأسبابها، داعية إلى توسيع وتأكيد المضامين الداعمة لمفهوم «جيش الشعب»، فليس محلًا للجدل ما تحتوية العسكرية من قيم ومبادئ وثيقة الصلة بقواعد وأسس مجابهة التحديات الماثلة أمام التجربة المصرية، في ضوء ما تعكسه التجليات الاجتماعية للمؤسسة العسكرية، يندرج تحتها الدور التنموى المتميز، لاحظ هنا تميز نموذج مشروع قناة السويس الجديدة، وما حازه من ثقة شعبية، سرعان ما انعكست على الساحة الدولية، بعد ما أكده من قيم راسخة معمول بها في المجتمعات المتقدمة، لعل أهمها العمل والتحدى والدقة، وما حرص عليه من شفافية، وهى قيم لا ينبغى أن تنتظر نجاحًا للمسيرة الوطنية إن لم تعمد إليها كل محاور العمل الوطنى. 
يتسق ذلك مع ما قدمته العديد من التجارب الدولية الناجحة فىتأكيدها على قدرة المؤسسة العسكرية على أداء دورها البارز في إحداث تغيرات مجتمعية، لتمتد إلى كل المجالات غير العسكرية، تعلو بالقطع إلى مصاف التغيرات الجذرية إذا ما واكبت ثورة شعبية، باعتبار الأخيرة أبلغ أثرًا في حياة الشعوب من الكثير من الكوارث الطبيعية والحروب والنزاعات المسلحة، كمنعطفات تاريخية استثنائية ترتفع فيها مسئوليات المؤسسات العسكرية إلى حدود «الإبقاء» على الدولة ذاتها.
وكما تتقدم الاحتياجات العسكرية في أوقات الحروب، على ما عداها من احتياجات اقتصادية أو اجتماعية، فإن الثورات الشعبية من شأنها حتمية إعادة ترتيب أولويات الدولة، واستدعاء كل مكونات قواتها، في ترتيب يلبى نداء المسئولية الوطنية، ويعبر عن حقيقة إدراك المجتمع لطبيعة ما يواجهه من مخاطر وتحديات، ومن ثم لا تمتلك المؤسسة العسكرية إلا الانخراط، بقيمها ومبادئها في إعادة بناء الدولة وفق ما قضت به أهداف الثورة الشعبية الحاضنة لطموحات الشعب.
فكريًا، العسكرية سلوك.. تحكمة قيم. ووظيفيًا، العسكرية محفل وطنى لمجمل العلوم الإنسانية والتطبيقية.