السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رقابة التليفزيون «11»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وقفت قبل أن أغادر بوابة المعهد العالى للفنون المسرحية فعلت شيئا غريبا عن طبيعتى، إذ عدت وطرقت باب عميد المعهد نبيل الألفى، وقلت له ببساطة إننى لم أجد اسمى فى كشوف الناجحين. وندمت فى لحظتها متوقعا أن يرد: وما شأنى أنا؟ لكنه سألنى عن اسمى، ولما سمعه قال: لا، أنت نجحت، وأرسل معى الساعى ليرينى اسمى، كان هناك ملحق ببقية الأسماء بورقة ثانية لم أنتبه إليها، فأدركت أنه رغم كل عنادى، فقد أصبح اسمى يمثل فوبيا بالنسبة إلىّ أنا نفسى وليس فقط للآخرين، وتخيلت لو أننى لم أذهب إلى العميد، ماذا كان يكون حالى وقد ضيعت خمس سنوات فى مرحلة الثانوية. واصلت كتابة القصص والمسرحيات والروايات والتمثيليات، بل محاولة كتابة الشعر! والتقطت أنفاسى، وعرفت أن الوقت الذى أضعته فى القراءة والكتابة وسماع الموسيقى كان له معنى، والآن سأواصل كل هذا كجزء أساسى فى دراستى. فما أجمل ذلك.
لكن صدمتى فى المعهد كانت كبيرة، فكل شىء عشوائى، ويبدو كأنه مدرسة ثانوية ليس أكثر. كنا ٢٤ طالبا بقسم النقد وأدب المسرح. وفى البداية لم أتحدث مع الزملاء إلا قليلا، بينما كنت أسمعهم إذا وجهوا الحديث إلىّ. وطمع البعض فى صمتى، فكانوا يحدثوننى كأنهم يسعون لإرشادى، مع أن أغلبهم نجح بالواسطة. ورحت أستأنف القراءة مع اهتمام أكبر بالمسرح. غير عابئ بالدروس، أترك المحاضرات لأظل بالكافيتريا لأدردش مع من يقبل الجلوس معى، فإذا وجدت نفسى وحيدا أدخل للمحاضرات أو أنصرف وحدى.
وفى محاضرة لتاريخ الأدب المسرحى كان المحاضر مملا، فأخذت ورقة من زميل جلست بحواره بالصدفة، ورحت أتسلى برسم صورة امرأة عارية، فوجئت بزميلى شبه المتخلف يشكونى للأستاذ، فيخطف الورقة ويعرضها على الطلبة ليضحكهم، ثم يسألنى لماذا أرسم امرأة عارية؟ أهم بالقول إننى كنت أدرس بالقسم المسائى بكلية الفنون، حيث نتعلم رسم الجسم الإنسانى، لكننى أقول بسخرية رسمتها، لأننى أعانى كبتا جنسيا بحكم سنى! يبتسم الأستاذ وقد أرضته الإجابة ويعطينى صفرا فى مادته ولا يعيد إلىّ لوحتى. فأخمن أنه اشتهى هذه المرأة! وعموما أعفاه المعهد من التدريس لضعفه الأكاديمى. ورسب الطالب للمرة الثانية وفصل من المعهد.
كانت الامتحانات عبارة عن أسئلة المفترض أن أكون قد حفظتها كى أطرشها فى ورقة الإجابة، فأغلب الأساتذة كالطلاب لا يملكون بضاعة، وبالكاد نجحت بدرجات ضعيفة، ولم أهتم، وبدأت أعلن آرائى باستخفاف بلا مبالاة. وأذكر أننى كنت وسط مجموعة من الزملاء قرب نهاية العام الدراسى عندما قلت لزملائى إن حكم عبدالناصر سيقودنا إلى كارثة، لأننى لا أثق فى الكلام عن الاقتصاد والحرية والوحدة العربية وغيرها مما تشيعه أجهزته الدعائية التى كان قد أممها! لكننى لم أشك لحظة فى قوتنا العسكرية. ذهل الزملاء، فهم يسمعون هذا لأول مرة، وكنت أعى رقابة المباحث القوية للنظام فى كل مكان بما فيه معهدنا، لكنى لم أهتم وكتبت تمثيلية اجتماعية للتليفزيون باسم «الفنانة»، وأعجبت المخرج، لكنه اتصل بى، وطلب أن أنسى الفنانة وأكتب عملا وطنيا حسب تخطيط المسئولين، فقد بدأت حرب ٥ يونيو ٦٧ التى لم تعمل الدولة حسابها! تضايقت من ضياع الفرصة، ثم تذكرت مسرحية من فصل واحد كتبتها دفعة واحدة فى فبراير ٦٧ ضمن تدريب نفسى على كتابة المسرحيات واسمها «الأسرى»، وكنت لا أزال فى السنة الأولى بالمعهد والجو فى منطقتنا ينذر بوقوع حرب بين مصر وإسرائيل، فكتبت مسرحية قصيرة تدور أحداثها ببورسعيد عام ١٩٥٦ خلال العدوان الثلاثى، ويمثلها شخصيتان فقط. جندى إنجليزى تم أسره بواسطة الفدائيين، وفتاة فى الثامنة عشرة، لكن المسرحية بما تثيره من أفكار وأسئلة تبدو وكأنها كتبت بالأمس، خصوصا وهى تناقش نحن والآخر وعلاقة الشرق بالغرب. لم أكتبها لنشرها أو عرضها. فلا فرصة لذلك، وإنما كتبتها لنفسى. كنت وما زلت أكره الحرب والسياسة، لذلك حاولت أن أتجاوز الواقع المعاش لكى أرقبة بنظرة الطائر من أعلى. فى الحقيقة كنت أحاول أن أحل مشكلتى أنا بكتابة هذه المسرحية، وكانت مشكلتى كيف أوفق بين كراهيتى للعنف وبين الحرب المحتملة مع إسرائيل. ولما وصلت للنهاية وبينما البطلة قد استنفدت موقف الاختيار التراجيدى الذى وجدت نفسها فيه وصارت مجبرة أن تقتل الأسير وألا تعترف على أخيها الفدائى جعلت الممثلين يتوقفان عن التمثيل، ليعلنا للجمهور أن المؤلف توقف هنا وترك لهم المشكلة ويسدل الستار. وقلت ربما قبلها التليفزيون إذا أدخلت تعديلا بسيطا. فغيرت العنوان من «الأسرى» الذى يعنى أن كلا من الجندى والفتاة أسيران إلى «الأسير»، ووقفت بالنهاية عند اللحظة التى اعتقدت فيها الفتاه أنها قتلت الجندى. وأعجب بها المخرج بشدة.
لكن رقابة التليفزيون رفضتها رفضا قاطعا، فهل أستسلم؟