الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

استمعوا للفلاح قبل فوات الأوان "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت أرض مصر الزراعية ملكًا لمجموعة من الأتراك اغتصبوها عنوة من أصحابها عقب الغزو العثمانى لمصر سنة ١٥١٧، وكان أصحابها قد ورثوها عن أجدادهم الفراعنة، وظلت ملكيتهم لها مستمرة بعد الفتح الإسلامى لمصر، ولم يرد فى التاريخ أن عمرو بن العاص قد اغتصب الأراضى من الفلاحين المصريين بل ظلت الأمور كما هى، واستمرت طوال حكم الدولتين الأموية والعباسية، وما تخللتهما من أسر استقلت عن الخلافة حينًا، ومنها الحكم الفاطمى، ولكن سليم الأول انتزع ملكية الأرض لنفسه ووهبها للأتراك وجعلهم ملتزمين بجمع الضرائب للحكومة بعد تحصيلها من الفلاحين الذين لم يبق لهم إلا النزر اليسير من الأراضى، أما السواد الأعظم من فلاحى مصر فقد تحولوا بين ليلة وضحاها إلى أُجراء عند الغازى التركى حتى جاء محمد على فى ١٨٠٥ ليقرر إلغاء نظام الالتزام، بالمناسبة عندما كنت تلميذًا بالمرحلة الابتدائية، وكنا ندرس فى التاريخ أن محمد على ألغى نظام الالتزام سألت مدرس التاريخ عن معنى نظام الالتزام فقال لى: مش عارف أنت احفظها كده وخلاص، ومرت الأيام وبحثت وفتشت حتى أدركت أن نظام الالتزام يعنى أن مالك الأرض التركى كان ملتزمًا بتحصيل الضرائب من الفلاحين وتوريدها للحكومة، والضرائب هنا ليست نقودًا فحسب بل هى محاصيل زراعية أيضًا، وبموجب إلغاء الالتزام أصبح محمد على هو المالك الوحيد لكل أراضى مصر الزراعية، وأصبح الفلاح المصرى أجيرًا عند الحكومة، ولكن محمد على أهدى معاونيه ومن كان يتسم فيهم النبوغ وأفراد الجهادية (الجيش) بعض الأراضى الزراعية ووهب كبار الأعيان مساحات شاسعة من الأراضى البور ليحثهم على زراعتها، وهذه الأراضى سميت بالأبعاديات لأنها كانت مستبعدة عن مساحة الأرض المزروعة أو بعيدة عنها، وهذه الأبعاديات والأراضى الموهوبة هى التى خلقت الإقطاع، ويذكر التاريخ أن محمد على فى عام ١٨١٣ قام بقياس الأراضى المزروعة فى القطر المصرى، وحدد أطيان البلاد وأحواضها ومساحة كل حوض فيها، وهذه الخرائط هى الموجودة حتى الآن بداخل الجمعيات الزراعية، وقد عمد محمد على إلى استغلال الفلاح المصرى فى حفر الترع بالسخرة، وزراعة رقعة الأرض المزروعة، حتى وصلت إلى حوالى أربعة ملايين فدان، واهتم محمد على أيضًا بإدخال محاصيل جديدة، وإقامة المحالج الخاصة بالقطن، وخصص بعض الأراضى لإقامة الشون التى يتم تجميع المحاصيل فيها، وحين تولى الخديو سعيد حكم مصر قرر التصرف فى جزء من الأراضى الزراعية لصالح أقاربه من الأسرة العلوية ولصالح بعض أصحاب النفوذ ولمجموعة من الأجانب، وظل حال الفلاح كما هو بل ازداد سوءًا، وكانت السياط هى عقابه إذا تكاسل يومًا عن العمل أو رفض السخرة وعلى مدار سنوات حكم إسماعيل وتوفيق وعباس حلمى وحسين كامل وفؤاد نشأت طبقة من الإقطاعيين الذين اشتروا الأراضى من الأسرة الحاكمة واشتروا معها الألقاب فصاروا باشوات وبكوات إلى جانب بعض الإقطاعيين الذين ينتسبون لعائلات تركية، ولم يلتفت أحد للفلاح إلا الضباط الأحرار حين وضعوا مبدأ القضاء على الإقطاع من بين مبادئ ثورتهم فى ٥٢، وإذا كانت الثورة قد قامت فى يوليو ٥٢ فقد شهد شهر سبتمبر ٥٢ إعلان القانون الأول للإصلاح الزراعى، وبه تم تحديد الحد الأقصى لتملك الأرض، وتم توزيع الأراضى المصادرة لصالح الفلاح بموجب خمسة فدادين للفلاح الواحد، ولأول مرة يستشعر الفلاح المصرى كرامته ويرفع رأسه عن حق، فالأرض التى طالما رواها بعرقه وجهده أصبحت ملكه وتوارثها أبناؤه، وهنا نأتى إلى الكارثة التاريخية حيث لم ينتبه المشرع لقانون الإصلاح الزراعى إلى التفتيت الذى سيحدث للأرض بعد جيلين، فالخمسة فدادين التى امتلكها الجد أصبحت اليوم قيراطًا عند الحفيد بعد تقسيم الأرض حسب الميراث الشرعى للأبناء، وأصبح القيراط لا قيمة له، فعائده لا يكفى لسد احتياجاته، فكيف للحكومة الآن أن تنتبه لهذا الخطر، وهل من سبيل لحل هذه المشكلة ولسماع أنين الفلاح الذى هجر الأرض وذهب إلى المدينة؟.