الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

بائعو الموسكي: إحنا ضحايا البلدوزر

بائعو الموسكي
بائعو الموسكي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
■ ضحايا «دولة القانون»: «الحكومة لا بترحم ولا بتسيب رحمة ربنا تنزل»
■ فض حي الموسكى وإجلاء الباعة الجائلين يتسبب في تشريد حوالي 4000 أسرة
■ «حسين»: الدولة بتخسرنا وتصنع عداء معنا دون سبب
يقف رجال الشرطة بزيهم المميز وسط الزحام.. «بلدوزر» يدهس كل ما يقابله، لا يبقى ولا يذر.. سيارة نقل كبيرة مكتظة ببقايا ألواح خشبية متحطمة، وأكوام من بضائع الملابس والأحذية.. ضجيج السيارات وصراخ الباعة يملآن الشارع.. حالة من الحنق والغضب والخوف والترقب تتسيد المشهد البائس، خلال تجريد شارع سوق الموسكى من صبغته التجارية وطبيعته الصاخبة الموجودة منذ أكثر من ستين عاما هى عمره.. الجميع فى البطش سواء، الباعة من الشباب والسيدات وكبار السن، لم يجد أحدهم فى قلب «البلدية» أى شفقة ورأفة، بأحوالهم المادية المتدهورة، أو بفقدهم لمصدر رزقهم الوحيد، الذى لا يملكون غيره، ليكف عنهم «قلة الحيلة» وضيق ذات اليد. سوق الموسكى بباعته الجائلين ومحاله القديمة وسكان المنطقة، حكوا مأساتهم لـ«البوابة»، بعد حالة الخراب التى ضربت الشارع -بحسب وصفهم-مطالبين الدولة بالترفق بحالهم وخلق بديل يناسب ظروفهم، يمكنهم من العيش بكرامة.
سبعة صنايع .. والبخت "ضايع
ياسر حمدى، بائع تخطى العقد الخامس من عمره، تخرج من جامعة الأزهر قسم اللغة العربية، إلا أن عدم تعيينه فى وظيفة حكومية، اضطره إلى الأعمال الحرة، فوجد ضالته على أحد أرصفة الموسكى، بعد أن افترش طاولة خشبية، أعدها خصيصا لبيع أحذية الأطفال، ذلك قبل أن تسلبه إياها مرافق الموسكى بالقوة.. يحكى «ياسر»: «عندى ٣ أولاد بصرف عليهم من فرشة الأحذية بتاعتى، والبلدية بتلعب معايا لعبة القط والفار، بتيجى تشيل الفرشة، عشان أروح أدفع ٥٠٠ جنيه فى مقابل إنى أستلمها تانى، وأتفاجأ بأن نص البضاعة اتسرقت، يعنى كأنى بعت البضاعة بالخسارة، لأن مكسب الحاجة كلها على بعضها، لو اتباعت ٦٠٠ جنيه».
يواصل «ياسر» كلامه: «فى الأول كنت بفرش بره فى الشارع، وبعد كده البلدية دخلتنا جوه، عشان الشارع والمرور، احترمنا القرار، ودخلنا نبيع فى الشوارع الجانبية، رغم قلة المكسب فيها، ورغم أننا شايفين إن فيه ناس تانية واقفة بره، وبعد فترة قصيرة هجموا علينا تانى زى التتار، وخدوا البضاعة بتاعتنا، والمرة دى جابوا بلدوزر وحطوه بره كنوع من التخويف لنا، عشان يوصلوا لنا رسالة إنهم يقدروا يعملوا أى حاجة، وإنهم هيمشونا نهائيا من المكان».
يتحدث «ياسر» عن تاريخ الباعة الجائلين فى سوق الموسكى -بحسب ما حكاه له أحد المسئولين بحى الموسكى أثناء استخراج تصاريح العمل-: «السوق دا بقاله أكتر من ٦٠ سنة، وأنشئت بسببه نقابة اسمها الباعة الجائلين، وكان رئيسها اسمه محمد حسين، وحاليا ابنه ماسك النقابة، والمكان هنا مرخص على أنه سوق من سنة ٧٦، لكن الأمور تغيرت فجأة، وأصبح رئيس الحى عايز ينقل الباعة الجائلين لمكان تانى، دون توفير بديل مناسب للناس».
من وسط الزحام يأتى صوت صراخ عالٍ، يبوح بالألم والحسرة، يرفع يديه ممسكا ببطاقته الشخصية، المكتوب عليها «خريج كلية الحقوق جامعة عين شمس».. هكذا انفجر أحمد عبدالعزيز -٣٣ سنة غاضبا: «حرام يبقى معايا شهادة عالية وأتعامل المعاملة دى».. فمنذ تخرجه لم يجد فرصة عمل فى مجاله، فأعتمد على مجهوده الشخصى فى البحث عن عمل، ليحط رحاله فى سوق الموسكى، يشترى الملابس من مصانع الملابس الجاهزة، ويبيعها على رصيف أحد الشوارع الجانبية.
«هننام من غير عشا النهاردة أنا والعيال».. كلمات قالها «عبد العزيز» واصفا حالته الصعبة بعد سلبه مصدر «أكل عيشه»: «عندى طفلين صغيرين، ومصدر رزقنا الوحيد هى الفرشة دى، يعنى أنا من النهاردة هروح لمراتى آخر اليوم من غير فلوس فى جيبى، وممكن أستلف عشان أتعشى أنا وأسرتى، وكل دا عشان خاطر رئيس الحى قرر فجأة إنه يزيل البياعين، من غير توفير مكان بديل ليهم».
«البلدوزر» الذى وضعته شرطة المرافق أمام إحدى النواصى بحى الموسكى، ترهيبا للباعة الجائلين، قابله إحدى الشباب بالاعتراض بصوت عال وسط السوق، وقابله الباعة بالشجب والاعتراض..«بنتعامل كأننا حيوانات».. يصف «عبد العزيز»، صاحب الشهادة العليا، العنف غير المبرر الذى يتعامل به أفراد الأمن مع الباعة الجائلين: «هجموا علينا بالبلدوزر والعربيات كأننا حيوانات من غير إنذار أو مهلة، ومن غير توفير مكان بديل، كانوا وعدونا زمان بسوق بديل، لكن كله كلام وهمى، هما فاكرين إن مهمتهم بتنتهى بإنهم يطرودنا، واحنا نخبط دماغنا فى الحيط بعد كدا، والظابط جه بعلو صوته يقول اللى هيقف هنا تانى هيتضرب بالنار وملوش دية، وقالنا أنا عايز راجل يطلع يعترض، وشتمونا وبهدلونا وكأننا مجرمين، ورغم قدرتنا على مواجهة العنف بالعنف، لكن إحنا مش بلطجية ومش هنواجه الشرطة إلا بالقانون، وممكن فى أى لحظة يهجموا علينا ويعملوا إزالة للبياعين، وفيه حوالى ٤٠٠٠ أسرة هنا هيتشردوا فى تلك اللحظة».
يشاركه فى الرأى، ورفض معاملة الأمن السيئة، كرم محب بائع النجف، الذى تجاوز الأربعين من عمره: «حرام عليكوا احنا مش مجرمين، احنا شباب عايزين ناكل عيش».. ويتابع: «احنا اللى تصدينا لاقتحام قسم الموسكى أيام ثورة ٢٥ يناير، وشاركنا فى ثورة ٣٠ يونيو عشان عايزين البلد تبقى أحسن، إزاى الدولة تعاملنا كأننا مجموعة من الخارجين عن القانون، رغم إنهم لو قننوا عملية الباعة الجائلين فى المنطقة، ونظموا الشغل ومنعوا وجودنا فى الشارع الرئيسى، هنساعدهم فى تطبيق القرارات دى».
يضيف «كرم»: «سوق الموسكى دا تاريخى، وناس كتير محتاجاه، لأن الناس الغلابة ومتوسطى الدخل بييجوا يشتروا منه، والناس بتيجى من الصعيد والفلاحين عشان يشتروا حاجات المدارس ويجهزوا بناتهم، إزاى يشيل كل البياعين ويخلى المحلات اللى بتبيع بأسعار أعلى منهم، لأن البياعين دول بيبيعوا بأسعار مناسبة للشعب اللى مش كله بيقدر يروح يشترى من المحلات المعروفة، وقرار إزالة السوق دا دون توفير بديل يعتبر اعتداء على الشعب كله، مش بس على البائعين».
داخل إحدى الشوارع الضيقة، استند حسين حامد، الذى تخطى عقده الثالث، برأسه على طاولة خشبية فوقها أنواع مختلفة من الملابس، تعلو وجهه نظرة ملأها الحزن والتفكير فى مستقبله وابنيه اللذين يجاوراه، يفكر فى مخرج لذلك المأزق الذى وُضع فيه، حيث يتوقع أن يأتى أفراد الأمن لطرده وزملائه من المكان، يتحدث عن الهم الذى يشغل باله طوال الوقت منذ قدوم «البلدوزر» إلى المنطقة: «بفكر هأكل العيال وأعلمهم إزاى، لدرجة إنى بدأت أندم إنى خلفتهم فى الظروف المنيلة اللى البلد فيها دى».
ترك «حسين» قريته فى محافظة سوهاج، بعدما يأس من الحصول على عمل هناك، وانتقل إلى الإقامة فى سوق الموسكى، إلا أنه يقول: «جيت من الصعيد من ٧ سنين، هربا من الفقر والبطالة والإهمال، لما وصلت لحالة مادية سيئة، وجيت لقيت الدنيا هنا بهدلة وصعبة، ودخلت عيالى الاتنين مدارس حكومية، واللى زودها تهديد الحكومة بأنها هتشيل السوق، ومن غير ما يبقالنا مكان تانى ناكل فيه عيش».
«الدولة بتخسرنا».. جملة واصل بها «حسين» كلامه عن التعامل المهين من قبل حى الموسكى ومحافظة القاهرة بدعم من قوات الأمن: «كنت دايما بحب الحكومة وبدعمها فى أى قرار، وشاركت فى ثورة ٣٠ يونيو، وبعد ما كنت أنا وزميلى فى صف الدولة بقينا ضدها، لأنهم بيتبعوا أسلوب العصابات معانا، وبينقلونا شوية شوية لحد ما يخلصوا مننا، وكأن الدولة بتتعمد تعمل عداءات مع كل أفراد الشعب الغلبان».
ثكالى في مواجهة قمع "البلدية"
«تصريح بمباشرة مهنة بائع متجول.. شهادة وفاة.. شهادة قيد ابنها فى كلية التجارة».. أوراق وقفت تلوَّح بها «ميرفت» وسط عشرات الرجال فى سوق الموسكى، ووجهها مقفهر من حرارة الجو وعناء البيع.. مصير ابنيها فى الحصول على أبسط حقوق الحياة الآدمية، أصبح معلقا بعد مصادرة بضاعة الملابس التى تركها لها زوجها، كمصدر رزق قبل وفاته.. ميرفت منصور - ٥٠ سنة - تقول: «جوزى مات ومسكت بداله الفرشة، ورغم إنه كان مرخص الفرشة، وبندفع الرسوم القانونية بانتظام، لكن الحى جه وشال الفرشة، وصادر كل الهدوم اللى كانت رأس مالى فى الحياة، واللى كنت بأكل وأعلم منها عيالى، إزاى الحى يشيلنا فى ٥ دقايق بعد سنوات من العمل فى نفس المكان وبتصريح».
أمام بضع قطع من الملابس المعلقة على «استند» معدنى.. جلست تبيع بضاعتها فى هدوء، وبجوارها طفلة صغيرة تلهو بملل تحت أشعة الشمس الحارقة.. تنتظر فتحية عباس التى تخطت عقدها السابع دورها فى مواجهة رجال الأمن المدججين بالمعدات الثقيلة، لإزالة الباعة الجائلين.. تتحدث «فتحية» بصوت يكاد يُسمع وسط ضجيج المارة وهتافات الباعة: «جوزى مات وسابلى خمس عيال بجرى عليهم، عندى بنتين فى الكليات وبنت فى المدرسة، أأكلهم منين دلوقتي!».
مأساتها لم تبدأ عند سلبها لقمة عيشها، لكنها تعانى منذ اضطرتها إصابتها بمرض السكرى، إلى بتر ساقها اليمنى، وأصبحت قدمها البلاستيكية عكازها لمواصلة الحياة: «قبل ما رجلى تروح كنت بقدر أتحرك وأشتغل شغلانات تانية، لكن دلوقتى معنديش غير الفرشة دى اللى بصرف منها، ولما البلدية بتيجى كل فترة عشان تاخد الحاجات من الناس، بطلع أجرى بالرجل البلاستيك اللى مركباها، وبتبهدل آخر بهدلة، وكل مرة بياخدوا منى الفرشة، لولا إن أحيانا ولاد الحلال من البياعين بيساعدونى».
الجميع في "البطش" سواء
أصحاب المحال أيضا طالتهم مقصلة البلدية، فرغم وجود تصاريح وأوراق قانونية تثبت شرعية وجودهم، إلا أن الجميع فى البطش سواء، فتقتحم المحال وتصادر البضاعة باختلاف بأنواعها بدعوى عدم وجود تصاريح تجارية رغم إبراز أصحاب المحلات لما يثبت ذلك، بحسب «مصطفى محمد»، أحد أصحاب المحال بشارع الأزهر: «البلدية مش بتكتفى بالهجوم على الباعة الجائلين، لا بيخشوا على المحلات وياخدوا بضاعة، وتقول للى يعترض ابقى تعالى خد حاجتك، ولما بنروح بيخلونا ندفع فلوس إجبارية، وكأنها إتاوة، وكأننا عايشين فى زمن الفتوات، وكل دا عشان الظابط يروح آخر اليوم معاه شغل». يضيف «مصطفى»: «إن مشكلات أصحاب المحال لا تقف عند هذا الحد، بل إنهم يتعرضون لابتزاز صريح من قبل أفراد البلدية: «الظباط بيخشوا على المحلات يلموا من كل محل ١٠٠٠ جنيه إجبارى كل فترة، بحجة أنهم بيحمونا من البائعين الجائلين، رغم عدم وجود خطورة منهم من الأساس». وجود الباعة الجائلين فى الموسكى لم يعد يضايق أصحاب المحال التجارية، حسبما يوضح «مصطفى»: «البائعون الجائلون بقوا أمر واقع، ومعظم حتى أصحاب المحلات موافقين على وجودهم، لأن محدش بياخد رزق حد، ولأن الناس دى ساعات كتير بيكونوا أخواتهم وقرايبهم وبيسيبوهم ياكلوا عيش، والناس ظبطت نفسها على كدا من سنين، ونشأ بين أصحاب المحلات والبياعين علاقات وأصبحوا أصدقاء وزمايل».
"الزهور" تمنع الباعة الجائلين
مشكلة كبيرة ستواجه سكان عدد كبير من المبانى السكنية فى المنطقة، فبعد إزالة الباعة الجائلين من الشارع الذى يعتبر المنفذ الوحيد لتلك المساكن، شرع الحى فى بناء حاويات أسمنتية من الطوب، استعدادا لتجميل المنطقة بالزراعات والأزهار، وهو ما يجعل دخول سيارات الإسعاف أو المطافئ فى حالات الطوارئ إلى المنطقة أمرا مستحيلاً، يقول «محمد آدم» - ٥٢ سنة - أحد الباعة الجائلين: «إن المسئولين فى الحى لم يدرسوا قرار بناء تلك الحاويات، لما كان فى الشارع بائعين جائلين، وتحصل حاجة ومحتاجين عربية إسعاف أو مطافى تخش، كان البائعين بيشليوا الفرش بتاعهم بسرعة ويعدوا العربيات، إنما دلوقتى بعد ما بنوا دواير الزرع الكبيرة دى لو حصلت حريقة كبيرة مش هينفع عربيات تعدى، ومفيش شارع غيره، وهيضطروا يكسروا الدواير اللى بنوها، ويبقى اسمه إهدار للمال العام، طب حتى لو هيطوروها يخلوها طريق يسمح بمرور العربيات فى حالات الطوارئ».
يضيف «آدم»: «إنه يوافق على تطوير المنطقة إذا ما كان فى مصلحة السكان والسيولة المرورية، لكن بعد توفير بديل لهؤلاء الباعة، بدلا من نفيهم من المنطقة عشوائيا، ولو سألت أى بائع هنا هيبقى موافق على التطوير، لكن مش بالطريقة دى، إحنا بنطالب بتقنين وضعنا بدلا من قطع رزقنا، لأن فيه شريحة من الشباب لو ملقاش طريقة يجيب بيها فلوس، هيلجأ لحاجات تانية زى السرقة أو تجارة المخدرات أو الانضمام لجماعات الإرهابية».
حل الأزمة
اقتراحات قدمها بعض الباعة الجائلين لمساعدة الحكومة على حل تلك الأزمة، منها تحديد أوقات للبيع تساعد للتخفيف من الازدحام المرورى والتكدس الشديد فى منطقة الموسكى، يقول «على محمد» - ٣٠ سنة: «ممكن الحى يحدد عدد ساعات معينة للبياعين، زى من الساعة ٦ لـ ١٢ الصبح، بتبقى الشوارع رايقة وهادية، واللى محتاج حاجة هيصحى يجيبها الصبح ويروح، ونبقى ارتحنا من الزحمة طول اليوم خصوصا فى أوقات الذروة فى الضهر والمغرب، ولو الساعة عدت ١٢ تيجى البلدية تشيل أى بائع لسه موجود».
«منشية ناصر، الدويقة، أو الترجمان».. مناطق ارتبطت بنقل الباعة الجائلين إليها دون جدوى، يوضح «على»: «لو هينقلونا هناك إحنا برده معترضين، لأن الأماكن دى مفيهاش حركة بيع وشراء، دى مكان أروح أبيع فيه لنفسى، وللأسف الحكومة ممكن تعمل كدا فى الآخر، لأنهم بييجوا دايما على الغلابة، ولو إحنا بلطجية كنا هناخد حقنا، لكن إحنا غلطتنا إننا مش شمامين وماشيين بالسلاح فى كل حتة، وحتى لما قرروا يشيلوا السوق بدأوا فى أكتر منطقة فيها ناس غلابة، برغم إن ميدان الموسكى كله محتاج تنضيف وتطهير، لكن عشان عارفين إن الغلبان مش هيقدر يعمل حاجة غير إنه يدعى ربنا».