الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

متى ندق جدران الوطن؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ترى على أى ذكريات أغمضوا عيونهم للمرة الأخيرة؟ هل سكنت حدائق دمشق والغوطة العيون قبل انطفاء الحياة فيها؟ هل امتلأت الصدور قبل أن تخمد أنفاسها بذكرى رائحة نسمة هواء عابرة على شاطئ «بردة» حاملة معها ابتسامة أول حب وأول لمسة يد وبدايات حلم بالبيت والأولاد والحياة.
ترى من الذى مات أولا. الأطفال الأربعة أم أمهاتهم؟ هل تشابكت أياديهم بحثا عن دفء مغدور ببرودة لا نهائية؟ وما الفرق بين برودة ماء البحر وبرودة قلب لا يرحم لشاحنة حديدية؟ هل حلموا بالنجاة أم استسلموا للموت فى هدوء؟ هل دقوا الباب كما سبق وصرخ بها سائق شاحنة «غسان كنفاني» فى قصته «رجال فى الشمس.. لماذا لم تقرعوا جدران الخزان». القصة التى كتبها فى عام ١٩٦٣. هرب فلسطينيو «غسان كنفاني» من عدو واضح. ويهرب ركاب الشاحنة والبحر من عدو يطلق الرصاصات القاتلة بخسة وغدر، وتقتل دون أن يعرف القتيل من أطلقها. 
سبعون «مواطنا»، نعم مواطن سورى عربى أغلقت عليهم أبواب الحلم بالنجاة وفروا فى ثلاجة لنقل الدجاج إلى النمسا، وماتوا دون أن نعرف هل ماتوا كمدا أم خذلانا أم يأسا. هربوا من وطن يهرب منه أهله كما تنبأ غسان كنفانى منذ أكثر من نصف قرن. هربوا من عدو له مئات الوجوه القبيحة والأنياب المسمومة. هربوا من القهر والجوع والذل. ولقوا مصيرهم فى نفس اليوم غرقا فى البحر. خمسمائة هارب من الجحيم أغلبهم من السوريين. غرقوا وهم يصارعون الموت بأياديهم الضعيفة أملا فى الوصول للشاطئ الآخر.
هربوا يسكنهم الحلم بالخلاص. الخلاص من الحياة عيشا أو موتا على هذه الأرض الممتدة من الخليج إلى المحيط والتى لفظتهم ليعلنوا للعالم أن من سوريا فقط هرب أربعة ملايين سورى، هربوا من أنظمة ودواعش ورصاصات تحمل ألف هوية قاتلة. قتلهم البحر والرصاص والباب المغلق داخل ثلاجة دون أن يقولوا لنا. هل أغمضوا عيونهم على خرائب وجثث وأفق مسدود بلا رحمة؟ وهل تذكر أحدهم أغنيتنا القديمة التى أصبحت موجعة للبعض ومضحكة للبعض الآخر «وطنى حبيبى الوطن الأكبر»؟
هل أصبح لدينا وقت أو كما نقولها بالعامية «نفس» للغناء؟ تتزاحم الأسئلة الدامية التى تفتح أبواب اليأس على وطن حلمنا به يوما كبيرا.تنفتح أبواب الجحيم وتتوقف الأسئلة التى تبحث عن إجابات دون جدوى ودون رؤية لخطوة قادمة تلملم الجسد الممزق من الخليج إلى المحيط.لماذا يهرب مئات الآلاف من بلادنا بكل السبل غير الآمنة أو بدقة أكثر غير الإنسانية والمهينة؟ إنه الهروب من المجهول إلى المجهول. فالمواطن العربى حتى وهو ساكن جدران بيته يعيش فى المجهول ولا يعرف مصيره فى اللحظة القادمة، وهو أيضا ذات المواطن الذى يحلم بالإنسانية بعبوره الشاطئ الآخر من البحر وبفتح باب الشاحنة الهارب فيها. 
مع الحقيقة الموجعة أنه فى ذات اللحظة التى تستخرج فيها الجثث من البحر، وفى ذات اللحظة التى يتناوب أسماك البحر على نهش لحم جثث أخرى، وفى ذات الوقت الذى لم تقدر الأكف المحبوسة فى الشاحنة على دق جدرانها. فى ذات الوقت هناك وفى نفس البلدان من يستعد لخوض نفس التجربة.
وبينما أوروبا منشغلة بالقادمين إليها من أبناء لحمنا ودمنا، لم نسمع عن خطوة ولا موقف عربى موحد يناقش هذه الظاهرة، وليهدأ ويأخذ شهيقا عميقا من سيتبجح وينكر أنها قد أصبحت ظاهرة. كان هؤلاء الموتى يعيشون على أرض أغنى مناطق العالم، ويواصل الحياة الموتى المحتملون على ذات الأرض، ولكن الإرادة والقرار المنقذ ليس لأرواحهم فحسب بل لكرامتنا المهدرة لم يتخذ بعد، خاصة بين جدران جامعة الدول العربية.فمتى تتحرك المؤسسة الجامعة وتناقش هذه الظاهرة وتضع لها حلولا جادة تنقذ الأرواح والكرامة؟ إلى متى سيظل الوطن العربى يلقى بأبنائه وبلحمه مبعثرا فى بلاد الناس، وإلى متى سيقوم الغرباء بدفن موتانا فى مقابر بلا شواهد تحمل أسماءهم وبدون سرادق عزاء؟