الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: "المسكوت عنه" في عالم نجيب محفوظ.. (1) العنوسة من الاختيار الإرادي إلى السقوط في الهاوية

المسكوت عنه في عالم
"المسكوت عنه" في عالم نجيب محفوظ.
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يقدم عالم نجيب محفوظ شهادة عميقة متكاملة صادقة عن العنوسة، ويرصد انعكاس تغير وتطور القيم الاجتماعية على المفاهيم التي لا تعرف الركود والثبات.
ينتبه الكاتب الكبير إلى حقيقة أن الجمال وحده لا يمثل جواز المرور للعبور نحو شاطئ الزواج، فما أكثر الدميمات اللاتي يتزوجن مبكرًا، وليس بالنادر الاستثنائي أن يكون الجمال هو العائق الذي يقود إلى العنوسة.
في الشخصيات النسائية التي يقدمها محفوظ، في أعماله الروائية والقصصية، ما يؤكد تباين ردود الفعل تجاه تهديد شبح العنوسة، من بساطة التعامل كأن الأمر لا يمثل مشكلة جديرة بالاهتمام، إلى هيمنة مشاعر الغضب والإحباط واليأس، وقد تأتي النهاية السعيدة بالعثور على زوج، مرد ظهوره إلى عوامل شتى، منها الحظ والقدر والسعي وقوانين التوازن الاجتماعي



*مفاهيم اجتماعية*
على الرغم من أن مصطلح العنوسة، لغويًا، يطول الرجال والنساء على حد سواء، فإن الشائع المستقر اجتماعيًا هو إطلاقه على النساء وحدهن، ذلك أن العرف السائد لا يحدد عمرًا بعينه للرجل، يصل معه وبعده إلى محطة اليأس من الزواج، أما المرأة فيبدو التأخير غير محقق لأحد أهم أهداف المؤسسة الزوجية، الإنجاب، عندما يتقدم بها العمر وتودع مرحلة الخصوبة.
يتجلى الفارق الجوهري بين النساء والرجال، في حوار قصير يدور بين علوان فواز محتشمي وخطيبته رندة سليمان مبارك، في "يوم قتل الزعيم". تطول فترة الخطوبة بينهما أكثر مما ينبغي، فيتهيأ علوان للانسحاب قائلاً:
"- لا مفر من التسليم بأني أهدر مستقبلك.
- ومستقبلك أنت؟
- الأمر يختلف وقد يتزوج الرجل في الخمسين".
يتزوج الرجل في الخمسين بلا غضاضة، ويكون أسرة وينجب بلا عناء، أما وصول المرأة إلى العمر نفسه، فبمثابة الإفلاس الذي يحول دون قدرتها على الإنجاب وتكوين الأسرة. قد لا يكون الزواج مستحيلاً عندئذ، لكن الدافع إليه هو البحث عن المتعة الجنسية، أو الهروب من الوحدة.
لاشك أن تأخر وتعثر الرجل في الزواج، أو الامتناع عنه بشكل نهائي، يمثل مشكلة ذاتية موضوعية لا يمكن إنكارها أو إهمالها، فالفرد يعاني والمجتمع تراوده الشكوك ويطرح التساؤلات، لكن الخروج من دائرة العزوبية ميسور ومتاح.
عبدالرحمن أفندي في قصة "حياة للغير"، مجموعة "همس الجنون"، يقترب من عامه الخامس والثلاثين، ويفكر جديًا في الزواج من جارته سمارا، التي لم تتجاوز السادسة عشرة!. فارق السنوات العشرين لا يمثل مشكلة مستحيلة التجاوز، وفشل المشروع لا يعني أنه غير قابل للتكرار مع فتاة أخرى.
عند استعراض أشهر شخصيات نجيب محفوظ، من الشباب والكهول غير المتزوجين، نجد تنوعًا لافتًا في الأعمار والمهن والثقافات ودوافع الامتناع: أحمد عاكف في "خان الخليلي"، كمال عبدالجواد ورضوان ياسين وعبدالرحيم باشا عيسى في "الثلاثية"، رجب القاضي في "ثرثرة فوق النيل"، عامر وجدي ومنصور باهي في "ميرامار"، وحيد الناجي في "الحرافيش"، حليم عبد القوي البيه في قصة "أسعد الله مساءك"، مجموعة "صباح الورد"، غسان عبدالعظيم داود ولبيب سرور عزيز في "حديث الصباح والمساء".
هؤلاء جميعًا، وغيرهم كثيرون، وفيهم الموظف والمدرس والقاضي والممثل والصحفي والمذيع والفتوة، لا يتزوجون لأسباب ودوافع مختلفة، لكن تغيير المسار ليس مستعصيًا أو مستحيلاً، دون نظر إلى الحوائل الاقتصادية والاجتماعية والجنسية والنفسية والفكرية، التي تقودهم إلى اتخاذ القرار بالامتناع عن الزواج.
أحمد عاكف يحن إلى الزواج، وتنتهي "خان الخليلي" وهو يفكر جديًا في جارته الأرملة كزوجة مناسبة، وكمال عبدالجواد يراود الزواج من بدور شداد، على الرغم من فارق العمر الكبير بينهما، ثم يتراجع لأنه يعي حقيقة حبه القديم غير القابل للنسيان مع شقيقتها الراحلة عايدة، والممثل زير النساء رجب القاضي يعيش قصة حب عميقة مع الصحفية سمارة بهجت، ولا يستبعد الإقدام على الزواج بعد إضراب طويل، والقاضي لبيب سرور يتزوج بعد أن تجاوز الستين، والموظف المتقاعد حليم البيه تعاوده أحلام الزواج من حبيبة الصبا والشباب، وكلاهما قد عبر الستين



* نسبية العمر*
الرجال لا يعرفون العنوسة بالمعنى الاجتماعي الشائع للكلمة، وينصرف المصطلح عادة إلى النساء وحدهن، لكن المرحلة العمرية للعنوسة تختلف مع التطور الاجتماعي والتغير الحتمي في القيم والمعايير.
في قصة "أم احمد"، مجموعة "صباح الورد"، يبدو العام الخامس عشر مناسبًا للزواج، والتأخير بعده يرادف القلق وينذر بالخطر!. في سياق الحديث عن آل العمري، تقول الخاطبة والماشطة أم أحمد: 
"- وددت أن أسرع في تسمين فاطمة ولكن أمها أجلت إلى ما بعد الزواج.
وتساءلت أمي عما يؤخر زواج الجميلة رغم بلوعها الخامسة عشرة فقالت أم أحمد:
- حسين بك مصمم على ألا يزوجها قبل الثامنة عشرة..
- ولكنها سن متأخرة يا أم أحمد".
انتظار وصول الفتاة الجميلة لعامها الثامن عشر لا يروق لأم الراوي، وبلوغ الخامسة عشرة يبدو مناسبًا للزواج!.
في المرحلة التاريخية نفسها، كانت خديجة أحمد عبدالجواد، في "بين القصرين"، تعلن بشكل صريح عن انزعاجها لأنها وصلت إلى عامها العشرين دون زواج، وإذ تهون عليها أمها أمينة، مؤكدة أنها مازالت صغيرة، لا يتوارى الانزعاج أو يتلاشى: "وتضايقت لذكر الصغر لأنها لم تكن تعد نفسها صغيرة بالقياس إلى سن الزواج وخاطبت أمها قائلة:
- لقد تزوجت يا نينة وأنت دون الرابعة عشرة.
فقالت الأم التي لم تكن في الحق دون ابنتها قلقًا:
- لا يتقدم أمر أو يتأخر إلا بإذن الله".
في القرن التاسع عشر، تتزوج أمينة قبل أن تصل إلى عامها الرابع عشر، فلا غرابة أن يسيطر القلق على خديجة وأمها معًا، عند الوصول إلى العشرين بلا زواج!.
هكذا كانت مصر في الربع الأول من القرن العشرين، فالفتاة لا تتعلم ولا تعمل، وليس من شيء ينتظرها وتنتظره إلا الزواج، فما الذي يبرر التأخير ويزيل القلق، مع توافر كل المؤهلات المطلوبة، وفي الصدارة منها: الثراء والعائلة المحترمة؟!.

مع الوصول إلى الستينيات، يتغير المشهد جذريًا، ويطرأ تحول كبير على عقليات الفتيات اللاتي يخضن رحلة التعليم وتجربة العمل، بل إنهن يفكرن في الهجرة خارج الوطن، دون تفكير في الزواج، كما هو الحال بالنسبة لابنة عبده البسيوني في "المرايا"، فهي لا ترى نفسها مختلفة عن شقيقها، وتراود أن تهاجر معه بعد الحصول على بكالوريوس في الصيدلة:
"- وفتى الأحلام؟.. ألم تفكر في هذه المشكلة؟

- إن ما نعده مشكلة يعدونه لعبًا"!.
الزلزال الاجتماعي يطيح بالموروث كله، ومن المنطقي أن تظهر بعض توابع هذا الزلزال في قضية مثل أحلام الزواج المبكر ومفاهيم العنوسة التقليدية. التشبث بالماضي وتقاليده وقيمه لا يعني شيئًا، ومخاوف السيدة أفكار، الزوجة ذات الأصول الشعبية للمليونير عبدالحميد حسني في قصة "أيوب"، مجموعة "الشيطان يعظ"، لا متسع لها أو معنى. ترفض الابنة نبيلة عريسًا تراه الأم مثاليًا، وتقول لزوجها في نبرة احتجاجية ساخطة:
"- إنها لم تعد صغيرة.
- بنت عشرين صغيرة في هذا الزمن، وهل يُخشى على ابنة مليونير من البوار؟!.
"هذا الزمن" يختلف عما قبله، فالطالبة الجامعية ليست أسيرة البيت، والإرادة المستقلة تزيح التبعية المطلقة، وتنوع الاهتمامات في حياة الفتاة العصرية المثقفة الواعية، لا يجعل الزواج حلمًا وحيدًا محوريًا


* جدلية معقدة *
الفتاة العانس، في كل زمان ومكان، ليست مسئولة عن عنوستها بطبيعة الحال، لكن المجتمع التقليدي المحافظ يصدر أحكامًا بالغة القسوة ضد من يفوتهن قطار الزواج، كأنهن معاقبات لأخطاء كامنة فيهن!.
العنوسة كفيلة بصناعة السمعة السيئة، دون نظر أو تفكير في طبيعة السلوك الأخلاقي الذي تمارسه العانس، ومدى خضوعه للقيم السائدة أو تمرده عليها، وفي المقابل، فإن السمعة السيئة متهافتة الأساس، غير القائمة على منطق أو دليل، تصنع العنوسة بدورها، أو تسهم في تكريسها، لكن عملية الزواج أكثر تعقيدًا من أن تكون معتمدة على جانب واحد، وليس أدل على ذلك من زواج الفتيات المنتميات إلى أسر لا تحظى بالرضا الشعبي، وهو ما نجده مع بنات الضابط عشماوي جلال، الجلاد عدو الحركة الوطنية في "المرايا". وفي الرواية نفسها، تمارس أسرة الحملاوي سلوكًا مستهجنًا يستحق السخط، مما ينبئ عن استحالة زواج البنات الثلاث لعصام بك الحملاوي: "ولكن بدءًا من عام 1930 حدث ما خيب تقديرات أهل الحي جميعًا. فقد تزوجت البنات الثلاث تباعًا، وفزن بزيجات ممتازة!".
الأمر نفسه نجده في قصة "بيت سيء السمعة"، فالأسرة التي تسبق العصر وتؤمن بالاختلاط وحرية المرأة، ولا تبالي بالآسن الراكد من القيم الموروثة غير المجدية، تتعرض لحملات عاتية من الهجوم والتشهير، لكن الراوي يستدعي ذكرى زواج بنات الأسرة جميعًا: "تذكر كيف تزوجت بنات البيت السيء السمعة واحدة بعد أخرى رغم ما سمع مرارًا وتكرارًا بأنهن بنات لم يُخلقن للزواج ولن يسعى إلى الزواج منهن أحد. وكلما جاءه نبأ عن توفيقهن في زواجهن ذهل واختلت موازينه!".
المرشحات للعنوسة، بفعل السمعة السيئة التي تطولهن اعتمادًا على الشبهة وحدها دون دليل، زوجات ناجحات موفقات في حياتهن الزوجية، ذلك أن المعيار الذي يقود إلى نبوءة البوار وتعثر الزواج، لا ينهض على أساس، والزواج عملية اجتماعية معقدة، تتداخل وتتشابك فيها عوامل اقتصادية وأخلاقية وثقافية، وتخضع لحسابات وصفقات. وفي هذا السياق، لا يمكن تفسير العنوسة بعامل واحد، مثل القبح أو الفقر أو شيوع السمعة السيئة، فالأمر كله نسبي مراوغ.



 * الجمال والقبح *
ليس دقيقًا أن العنوسة تقترن بالدمامة والقبح، وأن الزواج المبكر يرادف الجمال. مثل هذا الارتباط الميكانيكي ليس واردًا أو ممكنًا، فما أكثر القبيحات اللاتي لا تواجههن أشباح العنوسة، وما أكثر الجميلات اللاتي يتأخر زواجهن. إقبال الرجال على الزواج لا ينبع من جمال العروس فحسب، بل هناك أيضًا عوامل اقتصادية واجتماعية و"حسابات" معقدة تفضي في النهاية إلى تشكيل قانون خاص يتحكم في صناعة المؤسسة الزوجية، والجمال نفسه قد يتحول إلى عائق، وليس عاملاً إيجابيًا مساعدًا.
سميحة محمد سلامة، في "حديث الصباح والمساء"، فتاة مقبولة الجمال، وابنة أستاذ جامعي يملك شركة هندسية ناجحة. بهذه المؤهلات يبدو زواجها من المهندس الفقير حازم سرور فعلاً يصعب تفسيره، لكن الأسباب الكامنة تظهر بعد الزواج مباشرة: "وضحت له الحقيقة وجابهته بوجه منذر بالخطر، بأن العروس ذات جهاز عصبي لا يخلو من خلل".
المرض العصبي المزمن عنصر سلبي، والثروة والمكانة الاجتماعية والجمال المعقول مؤهلات إيجابية. الزوج المناسب من أبناء الطبقة الراقية لن يرحب بسميحة وعلتها التي تنتقص من قيمتها في سوق الزواج، أما حازم فهو العريس الذي لن يرفض الصفقة بمقاييس الحسابات التي تقوده إلى التوازن. المسألة لا تغيب عن الزوج، ولا يملك إلا أن يرحب بها ويتعايش معها: "ليكن، فهي "زيجة على أي حال عادلة".
أنموذج الزيجة التي تجمع بين حازم وسميحة ينهض دليلاً على أن العنوسة لا تقترن بالقبح والمرض، فالمعادلة تضم مجموعة من العناصر، والزواج في نهاية الأمر أقرب إلى "المشروع" الذي لا ينجو من الحسابات.
الفكرة السابقة نفسها، بطريقة مغايرة، نجدها في الحكاية رقم "9" من "حكايات حارتنا". أبناء الحارة الشعبية لا يخفون دهشتهم من العمل الوظيفي الحكومي الذي تلتحق به توحيدة بنت أم علي بنت عم رجب، فكيف تذهب إلى الوزارة وتجالس الرجال؟!. اليأس من الزواج يبدو تفسيرًا مناسبًا للخطوة غير المسبوقة، والرد التفنيدي على هذا التفسير يؤكد حقيقة أن الزواج لا يرتبط بالجمال وحده:
"- يمكن لأن البنت غير جميلة؟
- كانت ستجد ابن الحلال على أي حال".
ليس محتمًا أن يغيب "ابن الحلال" بغياب الجمال، وعنوسة توحيدة ليست قدرًا يستحيل الإفلات منه.
ما أكثر الرجال الذين يبحثون عن زوجة "مناسبة" تتوافق مع إمكاناتهم المحدودة التي تتطلب التضحية والتنازل في تحديد مواصفات العروس المطلوبة، وهؤلاء الرجال لن يجدوا مفرًا من تقديم تضحيات مهمة، مثلما نجد عند عثمان بيومي في "حضرة المحترم". طموحه الأسمى أن يتزوج من أسرة كريمة، تعينه في رحلة الصعود الوظيفي، ويقول لجارته الخاطبة أم حسني: "ليس من الضروري أن تكون بكرًا، لتكن أرملة.. مطلقة.. عانسًا.. لا يهمني الجمال- ولكن لتكن مقبولة – ولا يهمني السن ولا المال".
في سياق معين، قد تكون العانس مطلوبة، وقد لا يكون الجمال هدفًا، فالزواج شركة من طرفين، والأولويات تختلف بالنظر إلى طبيعة وظروف طرفي العلاقة.
محمد السناوي، في قصة "صباح الورد"، موظف بسيط فقير ضئيل المكانة قبيح الشكل، فهل من زوجة تناسبه إلا إذ كانت مثقلة بالعيوب التي تصرف الأفضل عنها؟!: "ولما شعرت أمه بدنو الأجل زوجته من قريبة لها عانس، قدرنا جميعًا أنها تكبره".
القريبة العانس للأم لن تظفر بأفضل منه، وهو بدوره لن يجد الأفضل. فقره وقبحه ووظيفته المتواضعة، في مقابل عنوستها وفقرها وتقدمها النسبي في العمر، ولا متسع هنا للحديث عن الجمال أصلاً!.



* مخاطر الجمال *
لاشك أن الفتاة الجميلة تشعر بالزهو والثقة، وتدرك في أعماقها أنها مطلوبة لجمالها، فتغيب عنها لعنة مشاعر القلق من العنوسة والبوار، وليس أدل على ذلك التوجه مما نجده عند حميدة في "زقاق المدق". لا تجد في نفسها ما يعيب، من الناحية الشكلية، ولا يسيطر عليها التوتر لتأخر زواجها.
تقول أمها بالتبني:
"- أسفي عليك من شابة عاثرة الحظ لا تجد من يطلب يدها!.
ولكن الفتاة رمقتها بنظرة غاضبة وقالت بحدة:
- لست أجري وراء الزواج، ولكنه يجري ورائي أنا، وسأنبذه كثيرًا..
.... ولم تكن الأم في الواقع يداخلها خوف على الفتاة من البوار، ولا تشك في جمالها، ولكنها كانت كثيرًا ما تثور بعجبها وغرورها".
حميدة أجمل فتيات الزقاق بالإجماع، وجمالها هو السلاح الوحيد الذي تملكه، فلا ثروة أو عائلة. هل يكفي الجمال لتحقيق الأحلام العريضة التي تراودها وتسيطر عليها، والوصول إلى نمط الحياة الذي تتمناه؟!.
ما تذهب إليه حميدة من سهولة زواجها بفضل الجمال الذي تتمتع به ليس صحيحًا بشكل يقيني مطلق، ذلك أن الجمال قد يكون سببًا في العنوسة، وهو ما نجده عند كثير من الفتيات الجميلات في عالم نجيب محفوظ.
في قصة "الخوف"، مجموعة "بيت سيء السمعة"، تتسم نعيمة بنت عم الليثي بياع الكبدة، بجمال يثير الإعجاب بعد نزولها إلى سوق العمل لمعاونة أبيها. ترمقها عيون الشباب باهتمام، وتظفر سريعًا بعريس بياع بطاطا. يقرأ الفاتحة مع أبيها، ولا تنتهي القصة عند هذا الحد، فالجمال يتحول من نعمة إلى نقمة، ويتنافس الفتوتان "الأعور" و"جعران" على الظفر بالجميلة التي يتبخر مشروع زواجها من البائع الفقير، وتتحول إلى أداة لصراع عنيف باهظ الثمن، يطولها ولا تنجو منه الحارة: "لا يمكن أن تتزوج من الاثنين فهذا محال، ولا يمكن أن تتزوج من واحد دون آخر فهذا هو الموت"!.
ينجح الضابط عثمان الجلالي، الجسور المغامر، في القضاء على الفتوتين، لكن الجميلة نعيمة لا تصل إلى شاطئ الاستقرار، ذلك أن إعجاب الضابط بها لا يقود إلى الزواج، وينصرف عنها من يرغبون فيها: "تجنبها الشبان حبًا في السلامة"!.
الفتوتان المتصارعان في ذمة التاريخ، والضابط يحب بلا زواج، والشباب المنافسون يؤثرون السلامة، والإشاعات المسيئة تتناثر وتنتشر، والتوتر المدمر يهيمن على الجميلة المتهمة فتعاني من الوحدة والعصبية، وسرعان ما تقسو الملامح وتبرد النظرات ويزول الجمال، لتحل الشيخوخة المبكرة بلا رحمة!.
للوهلة الأولى ينبئ الجمال اللافت بفرصة أكبر للزواج المبكر، لكن الجمال نفسه يمثل حائلاً منيعًا دون وصول الجميلة إلى ما تظفر به الفتيات الأقل جمالاً، وبذلك يتحول من نعمة مشتهاه إلى نقمة تشبه الطوفان المدمر!.
يتكرر الأمر نفسه في الحكاية رقم "33" من حكايات حارتنا"، حيث زينب الموصوفة بانها "فلتة رائعة من الجمال، وفي جمالها تتلخص حكايتها".
بفضل جمال زينب الخلاب يتكالب الخطاب عليها، وترفض الأم يد ابن أختها سواق الكارو فتتمزق أواصر الأخوة، ويتنافس صبي الطرابيشي وصبي الفران فيخوضان معركة دامية: "يخرجان منها بعاهة مستديمة"!.
وإذ يتقدم المدرس المحترم ذو المكانة الرفيعة، الذي يحقق الأحلام ويليق بالجمال الخارق، يتصدى له المنافسون فيفقد عينه: "عند ذاك يجفل المحترمون من أبناء حارتنا إيثارًا للسلامة ولا يبقى في الميدان إلا الحرافيش".
الحرافيش الفقراء من العوام والصعاليك لا يليقون بجمال زينب، والمحترمون القادرون يتراجعون إيثارًا للسلامة، والجمال الاستثنائي يفضي إلى البوار، ويبلور الأب زيدان محنة ابنته وجوهر مأساتها في كلمات موجزة دالة: "لقد حلت بنا نقمة اسمها الجمال!".
لا تتسع الحارة لجمال زينب، ولا تجد أسرتها مفرًا من مغادرة الجحيم الذي لا يطاق، وتكتوي به الفتاة الجميلة بلا ذنب أو جريرة. من المنطقي إذن أن يتساءل الراوي بحزن في نهاية الحكاية: "ألا يتيسر للجمال أن يهنأ بالبقاء في حارتنا؟".
جمال نعيمة وزينب يصل بهما إلى الجفاف والعنوسة والوقوف على حافة الضياع، وقريب من هذا ما نجده عند جميلة سرور عزيز، في "حديث الصباح والمساء". جمالها الذي يقر به الجميع، يتحول إلى عنصر سلبي يؤخر زواجها: "والحق أن جميلة أخافت الأسر المحافظة من الجيران فأحجمت عنها رغم جمالها"!.
صحح أن جميلة تتزوج ولا تسقط في شرك العنوسة، وأنها تنجو من الكارثة التي حلت بالجميلتين نعيمة وزينب، لكن المشترك بين الفتيات الثلاث هو انقلاب الجمال من نعمة إلى نقمة.



* عنوسة بلا توتر *
وصول الفتاة إلى ما اصطلح المجتمع على أنه سن العنوسة، لا يفضي بالضرورة إلى القلق والتوتر والسقوط في هاوية اليأس، فقد توجد أسباب معلومة لا تصنع مشكلة حقيقية جديرة بالقلق، ولا تدفع إلى الخوف من المستقبل وما يحمله من مؤشرات.
رندة سليمان مبارك، في "يوم قتل الزعيم"، تعبر بوضوح عن ذلك الاتجاه الذي لا يعرف التوتر، فهي تعيش قصة حب مع خطيبها وجارها علوان فواز محتشمي، ولأسباب اقتصادية يتأخر زواجهما طويلاً، ولا تظهر بادرة أمل في انفراجة قريبة. تقول لنفسها: "ماذا بعد خطبة طالت أحد عشر عامًا؟. ألا يوجد بصيص أمل؟".
حب مبكر تصنعه وتدعمه الجيرة، وخطوبة تطول أكثر مما ينبغي، والسؤال الأقرب إلى اليأس عن "بصيص أمل"، يجسد عمق الأزمة الطاحنة بعد تصاعد المعاناة في ظل الانفتاح الاقتصادي وتداعياته السلبية على الأسعار وصعوبة العثور على مسكن وتأثيثه، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بعالم الموظفين من أصحاب الدخول الثابتة المتواضعة.
المطلقة سناء، شقيقة رندة، تبدو أكثر حدة وقسوة في قراءة المشهد، ويتجلى ذلك بوضوح في عبارتها الساخرة الموجعة بلا رحمة: "لننتظر حتى تترمل وهي مخطوبة!".
قصة الحب التي تعيشها رندة مع علوان، تحقق قدرًا من التوازن النفسي والتماسك الظاهري، والقلق مخبوء في أعماقها البعيدة، لا تعبر عنه بشكل صريح مباشر، لكن الضغوط التي تتعرض لها لا تقتصر على ما تقوله شقيقتها أحيانًا، والأم الساخطة المتذمرة في أحيان أخرى، فالمدير في العمل لا يخفي رغبته في الزواج منها، ويحكي لها عامدًا عن طبيبة شابة يئست من إتمام زواجها المتكافئ من طبيب، فتخلت عن خطيبها الشاب وتزوجت تاجرًا في وكالة البلح، قانعة بدور "ست البيت"، ثم يعلق على الحكاية التي يرويها كأنه يقدم القانون العام الذي ينصح باحتذائه: "أنا اعتبرها عاقلة، فست البيت خير من طبيبة عانس!".
قد يكون صحيحًا أن الحب الصادق المتوهج يحول دون السقوط السريع في مستنقع اليأس والإحباط والتوتر، لكن المقاومة لا يمكن أن تطول بلا نهاية. اليأس من تجاوز الأزمة الاقتصادية الطاحنة يدفع علوان فواز إلى فسخ الخطوبة ورفع راية الاستسلام، وعندئذ تبدو الطريق ممهدة لزواج تقليدي بلا حب، يخضع للحسابات وموازين العقل.
صرخة احتجاجية أخيرة تطلقها رندة، في حوار ساخن مع أمها: "لن أكون أول عانس في التاريخ"!، ثم تستسلم لزيجة فاشلة تنتهي بالطلاق السريع.
الحب عاصم من الإحباط عند فتيات يمكن وصفهن بالعنوسة وفق المعيار الاجتماعي السائد، فالحبيب موجود ويملأ الحياة بالأمل، وحلم الزواج ليس غائبًا بقدر ما هو غائم، والمصير الذي آلت إليه رندة يختلف عن مسار قصة مماثلة عاشتها منيرة حامد برهان في "الباقي من الزمن ساعة".
جمال منيرة مما يُضرب به المثل، وتفوقها الدراسي يتجلى في الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب، والتخرج والعمل مدرسة، لكن قلبها يميل مبكرًا إلى شاب يصغرها في العمر، ومتعثر في دراسته، ولا يملك الإمكانات المادية للزواج. يقنع بوظيفة متواضعة تتوافق مع المؤهل المتوسط، ويستمر الحب بلا تقدم عملي ينبئ عن أمل الوصول إلى نهاية سعيدة.
تصمد منيرة مسلحة بالحب، ولا تتسلل المؤثرات السلبية لمفردة العنوسة إلى روحها، ولا تتأثر بمخاوف وقلق الأم التي لا تبدي تفاؤلاً بمستقبل العلاقة غير المتكافئة، لكن الزمن كفيل بزراعة الإزعاج وزلزال اليقين الراسخ: "توغلت في العمر حتى قاربت الثلاثين وهي ملهوفة على الزواج".
يُكلل صبر منيرة بالنجاح والانتصار، وتترمل شقيقتها زوجة الوجيه الثري فتحظى بدعم مادي يصل بها إلى محطة الاستقرار: "تزوجت منيرة بعد أن صار حبها حكاية".
معانقة العام الثلاثين، وما بعده، مشكلة تدعو إلى القلق والتوتر في الخمسينيات والسبعينيات على حد سواء، والحب طاقة من الأمل للمحبين، قدر ما أنه خاضع بدوره لعوامل الضغط الاجتماعي والنفسي، ولذلك تسقط عاشقة وتنجو أخرى.
المدرسة ليلى، في "قشتمر"، لا يسيطر عليها الإحساس بهاجس العنوسة، من الناحية الظاهرية، على الرغم من تقدمها النسبي في العمر. التحريات عنها، قبل زواجها من صادق صفوان، لا تشير إلى قصة حب في حياتها أو مشروع ارتباط: "وجاءت المعلومات تقول: إن الفتاة اسمها ليلى حسن، في الثلاثين من عمرها، أي تماثل صادق في سنه، مدرسة بمدرسة العباسية الابتدائية".
أسرة فقيرة "على قد الحال"، وبالنظر إلى القيم السائدة في المرحلة التاريخية، نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، فإن زواج المدرسة من "خردواتي" أقرب إلى التضحية والتنازل، فالمثل الأعلى هو الزواج من موظف. هل يمكن تفسير الزيجة كلها على ضوء الشعور الكامن بالعنوسة والتأخر في الزواج؟!.
لا يخفي صادق انزعاجه من تماثلهما في العمر: "تمنى لو كانت تصغره ببضعة أعوام، كما أنه تضايق بعض الشيء لما عرف أنه كان لها خطيب سابق انتهت خطبته بالفسخ، ولكنه فسر ذلك بفقر الأسرة وعجزها عن تجهيز العروس بما يليق". 
لاشك أن مشروع خطوبة ليلى قد تعثر لأسباب اقتصادية، ومن هنا غياب الشعور بالتوتر الظاهري، والاقتراب من الاستسلام واليأس واللامبالاة، ثم ادخار كل المشاعر السلبية المخبوءة لتنعكس على سلوكها المراوغ الأقرب إلى الشر في علاقتها الزوجية التي لم تعمر طويلاً، وانتهت بالطلاق لفرط عصبيتها وغيرتها وإسرافها المادي السفيه.
رندة سليان ومنيرة حامد وليلى حسن، لسن مضربات عن الزواج، ولا غياب للرجال عن عوالمهن، فهن راغبات في الارتباط ومقبلات عليه ومرحبات به، وتعوقهن أسباب تبدو مؤقتة وقابلة للتجاوز، لكن الأمر مختلف عند فتيات أخريات مسكونات بالخوف من ضياع فرصة الزواج، والسقوط في شرك العنوسة


* الهروب من الشرك *
بعد الوقوف على حافة هاوية اليأس من الزواج، تظفر بعض فتيات نجيب محفوظ، المرشحات للعنوسة، بخلاص غير متوقع، يصعد بهن فجأة لمعانقة الحياة الزوجية.
زينب زين الناطوري في "عاشور الناجي"، الحكاية الأولى من ملحمة "الحرافيش"، تمثل حجر عثرة أمام زواج أخواتها غير الشقيقات، وبظهور عاشور الناجي، الشاب القوي المخلص الذي يحظى بإعجاب وتقدير المعلم زين، تبادر زوجة الأب بترشيحه زوجًا للعانس ابنة زوجها، دون اهتمام بغياب التكافؤ الاجتماعي والندية، والإهمال الكامل لغياب التوافق بين ابنة المعلم والأجير مجهول النسب:
"- زوجه لزينب..
فقطب زين الناطوري متفكرًا ثم قال:
- آمل فيمن هو خير منه!
- طال الانتظار، وكلما جاء عريس لإحدى أخواتها رفضته إكرامًا لسنها.
فقال باستياء:
- لو كانت من لحمك ودمك ما قلت ذلك..
- أصبحت عقبة في سبيل بناتي، وهي في الخامسة والعشرين ولا جمال لها، وطباعها تسوء يومًا بعد يوم".
وصول زينب إلى عامها الخامس والعشرين، مع غياب الجمال، يعني السقوط المؤكد في شرك العنوسة من ناحية والحيلولة دون زواج أخواتها غير الشقيقات من ناحية أخرى. عاشور الناجي، مع الإقرار بفضائله وأخلاقه المثالية وقوته الخيرة، ليس العريس المنشود بالمعايير الطبقية السائدة، ولذلك يتحفظ الأب الذي يعاني من القلق والتوتر، لكن مساحة الاختيار – في المقابل- ليست واسعة، وضغوط زوجة الأب تسهم في إتمام الزواج، فضلاً عن معاناة زينب وحرمانها وترحيبها بالزواج الذي طال انتظاره.
في "الباقي من الزمن ساعة"، تمثل كوثر حامد برهان نموذجًا متكامل الأركان للفتاة التي تكابد مرارة العنوسة، قبل أن يتدخل القدر بشكل إيجابي مفاجئ غير متوقع، لانتشالها والتغيير الجذري لمسار حياتها.
كوثر متواضعة الجمال، لا تميل إلى التعليم ولا تحقق فيه النجاح المأمول: "وانجذبت بطبعها نحو التدين وشئون البيت، فاضطرت إلى ملازمة البيت بعد سقوط عامين متتاليين في المرحلة الثانوية. يومها قالت سنية لحامد:
- ست البيت غير مطلوبة في هذا الزمان.
وتذكر الرجل حظها المتواضع من الجمال فغلبه الأسى ولكنه قال:
- يوجد أيضًا الحظ وهو لا قانون له!".
لا تملك كوثر شيئًا من المؤهلات التي ترشحها لزيجة مناسبة، فالأسرة متوسطة الحال بلا ثروة، والفتاة نفسها بلا جمال أو تعليم أو عمل. الالتزام الديني محمود بلا مردود، وإتقان شئون البيت لا يمثل وحده عنصر إغراء وجذب لمن يرومون الزواج، فلا مراهنة إذن إلا على الحظ ومعاونة القدر.
لا شيء إلا الانتظار والمزيد من الانتظار، ولا جديد يغير حياة كوثر الراكدة التي تمثل مشكلة حقيقية مزمنة عند الأب والأم معًا: "وتمضي الأيام فلا يتقدم أحد لطلب يد كوثر وهي الوحيدة التي لا غاية لها إلا الزواج. وتبسط سنية راحتيها بالدعاء عقب كل صلاة، أو يتهلل وجهها بالبشر أحيانًا وهي تقول لحامد:
- رأيت حلمًا سيكون له شأن!.
أو تكلف أم سيد بقراءة الفنجان وتصغي إلى تأويلاتها الوردية فينتعش حامد بالأمل يهدهد به همه المطارد".
محمد، شقيق كوثر، وشقيقتها منيرة، تتسع الحياة عندهما لمفردات شتى، تعليمية وثقافية وسياسية وعاطفية، أما كوثر التي لا تغادر البيت، ولا اهتمام لها بالشأن العام، فلا غاية عندها إلا الزواج، ولا سلاح عند أبويها، قليلي الحيلة، إلا الدعاء إلى الله وتأويل الأحلام وقراءة الفنجان!.
تنبئ المؤشرات جميعًا بأزمة عاتية مستعصية، ثم يشرق الفرج فجأة بظهور عريس فاحش الثراء، لكنه لا يخلو من السلبيات والعيوب التي لا يمكن إهمالها أو إنكارها. الوجيه نعمان الرشيدي في الستين من عمره، أرمل وأب لثلاثة أبناء، ولا حظ له من التعليم.
السمات السابقة جميعًا توضع في ميزان السلبيات التي لا تجعله زوجًا مناسبًا، لكن ثراءه الطائل يتعانق مع أزمة كوثر المزمنة، وصولاً إلى الزواج الذي يمثل نهاية المعاناة لفتاة طيبة تعيسة الحظ، لا يمكن أن تراهن على انتظار البديل الأفضل: "وقالت كوثر لنفسها إنهم يميلون للموافقة. وهي أيضًا مالت إليها منذ اللحظة الأولى، فهذا الرجل هو أول رجل يتقدم. وهي تغوص في السادسة والعشرين تكتنفها أحوال تدعو إلى اليأس. وهي تثير العطف حتى كرهته. وباتت تخجل من لقاء الزائرات".
الفارق شاسع بين الستين والسادسة والعشرين، لكن الوجيه العجوز بمثابة الفرصة الوحيدة المتاحة، التي قد لا تتكرر، والموافقة على الزواج، مع التسليم بالعيوب والمآخذ، أفضل من اليأس والانتظار اللامجدي وعذاب العطف والشفقة ولعنة الخجل.
زيجة موفقة في جملتها، وترمل منطقي مبكر يفضي إلى الزهد في زواج جديد، وانشغال بالابن الوحيد، ثمرة الزواج الذي أفلتت به كوثر من براثن العنوسة لتستقر في حضن الترمل والأمومة.




* معجزات الخلاص *
في قصة "صباح الورد"، تمثل تجربة رتيبة مراد نموذجًا مثاليًا للعانس التعيسة التي تفلت من كابوس العنوسة في مرحلة متأخرة من العمر، بعد الوقوف طويلاً على حافة اليأس والاستسلام لفكرة استحالة الزواج.
تنتمي رتيبة إلى أسرة بسيطة فقيرة كادحة، دون نظر إلى أصولها التاريخية العريقة البعيدة. بعد وفاة الأب والأم، تعيش متفانية في خدمة أشقائها الذكور الثلاثة، أما عن مستوى جمالها فيبدو متواضعًا متدنيًا، وهو ما يؤكد أن عنوستها مشكلة مزمنة لاتكائها على الفقر والقبح معًا، ولا يمكن علاجها بامتناع شقيقيها الكبيرين عن الزواج في انتظار زواجها: "كان الفقر يخيم على الأسرة ويطمس معالم مستقبلها، وربما كانت رتيبة مشكلتها الأساسية لفقرها وجهلها وحرمانها القاسي من الجاذبية والجمال. ورغم ذلك فهي لم تستسلم للانزواء والانطواء، وترددت على أسر الشارع في زيارات انفرادية- متجنبه أيام الزيارات المعروفة- لتتفادى الوجود في مجتمعات السيدات بملابسها البسيطة المتواضعة، ولتلقاهن كذلك في بيتها منفردات فلا تكلفها الزائرة أكثر من فنجان القهوة. وكانت محور الخدمة في بيتها، فلم يشعروا بفقد الأم ولا بافتقاد الزوجة، وراحت تتقدم في السن عامًا بعد عام في جو من الصمت والقلق".
تجمع رتيبة بين الفقر والجهل والقبح، ولاشك أن ثالوثًا مرعبًا كهذا أقرب إلى حكم الإعدام على أي أمل في العثور على زوج، أما محاولات الاختلاط الاجتماعي مع الجيران، التي تواظب عليها وفق المتاح لها من إمكانات محدودة، فمحكوم عليها بالفشل، ذلك أن الحد الأدنى المطلوب من مؤهلات الزواج ليس مطروحًا، والتفاني في خدمة أسرتها التعيسة جدير بالثناء والتقدير والإشادة المجانية، لكنه لا يعني أن يغامر أحد بالتقدم لطلب يدها.
التقدم في السن يصل برتيبة إلى مزيد من التوتر والقلق، وتعبر عامها الخامس والثلاثين مستسلمة لليأس، ثم يتدخل القدر لتحقيق معجزة الزواج غير المتوقعة: "جاء أولاد الحلال بعريس لرتيبة. في الخمسين من عمره. كان وحيدًا وعلى شيء من الثراء والمرض، ولعله كان في حاجة إلى الخدمة أكثر من أي شيء آخر. هكذا تزوجت رتيبة قافزة فوق اليأس والظنون، واستقرت أيضًا في بيتها الجديد، وأنجبت قبل فوات الفرصة ولدين".
ظروفها أكثر تعقيدًا وصعوبة من كوثر حامد برهان، لكن النهاية متشابهة: الظفر بزوج لا يخلو من العيوب، والإنجاب قبل فوات الأوان ومعانقة اليأس الشامل بعد تبخر الخصوبة.
لا تختلف بهيجة سرور عزيز، في "حديث الصباح والمساء"، عن كوثر ورتيبة، لكنها أكثر جمالاً وأقل خفة وحضورًا. مثيلاتها من الأهل والجيران يتزوجن بلا عناء، وتتعثر هي ويطول بها الانتظار: "البنت جميلة ومثال كريم للأخلاق الفاضلة، فلم صد عنها الخطاب؟!".
السؤال عن صدود الخطاب بلا إجابة حاسمة، ولا تفسير للامتناع إلا "القسمة والنصيب" وتصاريف القدر. جمال وأخلاق وعائلة محترمة حافلة بالشباب المرشحين للزواج، لكن الارتباط يتأخر حتى يظهر عرض مفاجئ من ابن العم قاسم عمرو، وكأنه لم يكن على علم بوجودها من قبل!. العريس من أولياء الله الشعبيين الذين يربحون كثيرًا بفصل المنسوب إليه من كرامات، بل إن فكرة زواجه من بهيجة تتحول بدورها إلى ما يشبه الكرامة التي تُضاف إلى سجله الحافل!.
زواج بهيجة سرور، بعد أن تقدم بها العمر، أقرب إلى المعجزة، ذلك أنه تحقق في لحظة فاصلة كأنها المنحدر الذي يقود إلى الهاوية: "وجعلت تقترب من الثلاثين وهي تمضغ اليأس ليل نهار، وليس لها من الدنيا إلى نصيبها من معاش أبيها، وفجأة – وكأنما بوحي- انتبه لها الشيخ قاسم من جديد وقال لأمه:
- أريد أن أتزوج من بهيجة!".
ليس مستعربًا أن توافق بهيجة بلا تردد على الزواج من الشيخ قاسم، على الرغم من ظروفه الاستثنائية غير التقليدية، فالأزمة التي تعيشها لا تتيح فرصًا أفضل، فضلاً عن علاقتها القديمة مع ابن العم صاحب الكرامات: "أهو اليأس؟ أهو الحب القديم؟ أهو الخوف من الوحدة؟".
كل هذه الأسباب قائمة ومقنعة وتصلح مبررًا للزواج المفاجئ غير المتوقع، فالعنوسة شبح مرعب يرادف اليأس ومرارة الأحلام الضائعة ولعنة الخوف من الوحدة.



*حالة استثنائية*
في قصة "من تحت لفوق"، مجموعة "الفجر الكاذب"، يقدم نجيب محفوظ حالة استثنائية غير تقليدية، تعكس عمق التحولات الجذرية التي طرأت على المجتمع المصري، في ظل الانفتاح الاقتصادي، وهي تحولات عاصفة لا تنجو منها فكرة العنوسة وسبل مقاومتها.
نعيمة ابنة موظف متوسط الحال، يكتوي بنيران الانفتاح فيهبط مع أبناء طبقته المتوسطة إلى القاع الاجتماعي، ويتعذب بضغوط الحياة التي لا تترك مجالاً للإحساس بمكانة متميزة جديرة بالاحترام، أو حتى للشعور بالاستقرار والستر، كما كان الحال في العهود القريبة السابقة للانفتاح وتوابعه المدمرة.
تزداد حالة نعيمة تعقيدًا بوجود زوجة الأب القاسية المتعجرفة، تفيدة هانم، التي تحول ابنة الزوج إلى خادمة، بعد تعثرها في التعليم، أما أخواتها غير الشقيقات فتتسع لهن الوظائف الحكومية غير المجزية من الناحية المادية.
ذاقت نعيمة مرارة اليتم وهي في الثامنة من عمرها، ولم يكن أبوها من القوة بحيث يعوضها عن حنان الأم الراحلة: "وها هي تعبر الثامنة والعشرين بلا أمل ولا يكاد أحد يكتشف جمالها وراء غشاء الإهمال والقذارة. الإهمال والقذارة والجهل والسن والفقر. المستقبل لا يبتسم ابتسامته الشاحبة إلا في الحلم، والحلم لا يريد أن يتحقق، فهل تتجرع تعاستها حتى الثمالة؟!".
الزواج حلم أقرب إلى الوهم، والعنوسة واقع تعيس ضاغط لا يمكن إنكاره، وليس عند الفتاة من مؤهل يتيح لها فرصة العثور على فتى الأحلام الذي تحلق معه إلى عالم السعادة، فأي عريس يغامر بالاقتراب من الفقر والجهل؟!.
لا تتوقف زوجة الأب عن توجيه الكلمات اللاذعة الموجعة القاسية التي تستهدف نعيمة، ومن ذلك حديثها الخبيث عن القانون الذي يحكم الزواج ويتحكم فيه: "الشاب اليوم في حاجة إلى زوجة تشاركه حمل الأعباء، والموظفة بمرتبها تماثل صاحب الإيراد على أيامنا"!.
ما تقوله تفيدة تعريض صريح بالفتاة المحرومة من التعليم والعمل، لكن ما يغيب عن زوجة الأب أن بناتها المتعلمات العاملات لسن أفضل حالاً وأوفر حظًا من نعيمة، ويتجلى ذلك بوضوح عند تأمل ما تعرضت له أكبر بناتها: "تقدم شاب لطلب يد درية كبرى الأخوات وفشلت الخطوبة لعدم إمكان الحصول على شقة!".
قد يكون صحيحًا أن نعيمة هي الأكثر تعاسة وتعرضًا للمزيج المزعج من القهر والحرمان، لكن الصحيح أيضًا أن حظوظ أخواتها غير الشقيقات لا تختلف كثيرًا عنها، فهن مثلها عرضة للعنوسة بفعل تردي الأوضاع الاقتصادية. لا يتسع إيقاع الحياة الاجتماعية المصرية، في ظل الانفتاح الاقتصادي، لوقوع معجزة كالتي أنقذت زينب زين وكوثر حامد ورتيبة مراد وبهيجة سرور من براثن العنوسة، ولا بديل إلا البحث الجريء المبتكر عن سلوك مختلف وأفعال غرائبية بعيدة عن الرؤى التقليدية. 
تعمل نعيمة خادمة محترفة في بيوت الأغراب، ويتيح لها العمل غير المعهود، وهي ابنة الموظف، فرصة الزواج من كهربائي محترم، ينتشلها من هاوية العنوسة، ويخرج بها إلى شاطئ الزواج والاستقرار.
الأمر هنا لا يتعلق بنعيمة وحدها، لكنه يعبر عن مجتمع يطيح زلزال مدمر بقيمه وتقاليده وأعرافه المستقرة. لا ينجو مفهوم العنوسة من توابع الزلزال، ولا شيء أمام العانسات التعيسات إلا السعي لصناعة معجزة الخلاص، دون انتظار لتدخل القدر!.



. *خصوصية خديجة*
خديجة أحمد عبدالجواد، في "بين القصرين"، هي من تقدم الشهادة الأعمق والأنضج عن هواجس وهموم العنوسة في الربع الأول من القرن العشرين، قبل أن تتبدل القيم وتتغير المفاهيم ويتطور المجتمع، بخروج المرأة من زنزانة البيت لتتعلم وتعمل، ويكتسب الزواج بالتبعية مفهومًا مختلفًا، ينعكس في جانب منه على تحديد سن العنوسة وآليات التعامل مع تأخر الزواج.
وصول خديجة إلى العام العشرين يقذف بها إلى دائرة الخوف المشروع من دوامة عالم العنوسة، وتزداد المخاوف بالنظر إلى أنها ليست جميلة عند المقارنة بشقيقتها الصغرى عائشة، البيضاء شقراء الشعر زرقاء العينين. تملك خديجة أوراقًا رابحة في سوق الزواج: الانتماء إلى أسرة محترمة والمهارة الفائقة في الأعمال المنزلية، لكنها – في المقابل- عظيمة الشعور بمحدودية جمالها، ومسكونة بالسخرية اللاذعة التي تنفس من خلالها عن الهموم التي تسكنها في انتظار إشراق شمس العريس.
تتعرض خديجة لصفعة موجعة عندما يتقدم عريس ذو شأن، ضابط الشرطة حسن إبراهيم، للزواج من عائشة. وعلى الرغم من رفض السيد أحمد عبدالجواد بلا تردد لفكرة أن تتزوج الصغرى أولاً، فإن مشاعر خديجة تكشف عن عمق الأزمة التي تعانيها، حيث يمتزج الإحساس بالألم والفجيعة مع بوادر الندم والإشفاق جراء الظلم الذي تعرضت له عائشة.
لا يجد الأب صعوبة في رفض الضابط الذي تقدم لخطبة عائشة، لكنه يعجز عن اتخاذ الموقف نفسه تجاه العريس الآخر، خليل شوكت، لأسباب اجتماعية وعائلية، فيتراجع عن تعنته ويضطر لقبوله، وتتعذب خديجة في مواجهة الواقع الجديد الذي لا سبيل إلى مواجهته او الاحتجاج عليه: "وأبوها؟!، ماذا عدل به عن رأيه القديم؟!. أهانت عليه بعد إعزاز؟! هل نفذ صبره في انتظار زواجها فقرر التضحية بها وتركها للأقدار؟! لشد ما تعجب لتخليهم عنها كأنها شيء لا يكون، نسيت في ثورتها مواقفهم السابقة في الدفاع عنها فلم تذكر إلا "خيانتهم" الأخيرة، على أن غضبتها العامة هذه لم تكن شيئًا بالقياس إلى ما تجمع في صدرها نحو عائشة من مشاعر الغيرة والحنق!".
خديجة عظيمة الانتماء لأسرتها، ومحبة صادقة لكل أفرادها، لكن المعاناة النفسية الطاحنة، وليدة الحرمان وطول الانتظار، تؤثر سلبًا على رؤيتها للجميع، وبخاصة الأب الذي "خذلها" بالموافقة، والأخت التي سبقتها إلى عالم الزواج. أخطر ما يهدد خديجة هو فقدان الثقة في قدرتها من ناحية وهيمنة أشباح اليأس من ناحية أخرى، أما الأم أمينة فلا تنسيها فرحة زواج عائشة أن ابنتها الكبرى متعثرة ومهددة بلعنة البوار: "وكان زواج عائشة قد أثار مخاوفها القديمة عن خديجة فأرسلت- التماسًا للطمأنينة من أي سبيل – أم حنفي إلى الشيخ رءوف بالباب الأخضر حاملة منديل خديجة ليقرأ طالعها. وعادت المرأة بنوع من البشرى فقالت لسيدتها إن الشيخ قال لها "ستحملين إليّ رطلين من السكر عما قريب". ومع أنها لم تكن أول بشرى من هذا النوع تُزف إليها عن خديجة إلا أنها أملتها خيرًا ورحبت بها كمسكن للقلق الذي لايزايلها"
العنوسة إذن ليست همًا فرديًا يتعلق بالفتاة العانس المحرومة من الزواج، أو المعرضة للعنوسة والحرمان، فالأسرة كلها تعاني وتتعذب وتتعرض للقلق وتضمر الخوف. الحزن الذي يكتمه أحمد عبدالجواد ولا يبوح به، واللجوء إلى الدجالين وقارئي الطالع كما تفعل الأم، ليس إلا تعبيرًا عن قسوة المناخ العام الضاغط الذي يضفي الحيرة على الجميع، ويصنع حالة مزمنة من التوتر المعبر عن جماعية الأزمة.
في المجتمعات المغلقة التي لا تعرف الاختلاط بين الجنسين، وتحول دون الفتيات والخروج وحرية الحركة، يعتمد الزواج على دائرة ضيقة من الأقارب والمعارف المقربين، وهكذا يُقدر لخديجة أن تتزوج من شقيق زوج شقيقتها. العريس إبراهيم شوكت عاطل بلا عمل مثل أخيه الأصغر زوج عائشة، وأرمل كسول يعتمد في معاشه على إيراد مضمون موروث لا فضل له فيه. على الرغم من بلوغه الأربعين، فإن ملامحه لا تنم عن حقيقة عمره، فهو يبدو في الثلاثين: "مع أنه تزوج في صدر شبابه وأنجب طفلين ثم ماتت زوجه وطفلاه، ولكنه مرق من تجربته القاسية سالمًا لم يُمس، ثم عاود الحياة مع أمه في خمول ودعة وفراغ شأن آل شوكت جميعًا".
ما كان لخديجة أن تتزوج لولا أن سبقتها عائشة، فقد رأها إبراهيم وأعجب بها وأرسل أمه لتخطبها له، ولا تملك خديجة وهي تستمع إلى البشرى إلا أن تفكر في الحظ الذي كان مدخرًا لها: "إبراهيم مثل خليل مالاً وجاهًا فأي حظ ادخرته لها الأقدار، لشد ما أسفت على أن عائشة سبقتها إلى الزواج إذ لم تكن تدري أن زواج عائشة هو الذي قُدر له أن يفتح لها أبواب الحظ المغلقة".
تنجو خديجة من شرك العنوسة، لكن طباعها الحادة العنيفة تدفعها إلى العراك مع حماتها العجوز، وعندئذ تتعرض وهي الزوجة والأم، في "قصر الشوق"، لمعايرة أم زوجها، فهي تذكرها بالتاريخ القريب الذي تبخر واندثر، ولا تجد خديجة إلا معايرتها هذه لتدافع عن نفسها عندما يأتي الأب مستجيبًا لإلحاح العجوز، ويوبخ ابنته ويحمل على سلوكها: "قالت بصوت متهدج تخنقه العبرات:
- أنا مظلومة، والله أنا مظلومة، إنها لا ترى وجهي حتى ترميني بكلمات قاسية، ولا تفتأ تقول لي "لولاي لقضيت العمر عانسًا" وأنا لم أنلها بسوء أبدًا، وكلهم شهود على ذلك..
لم تعدم الحركة التمثيلية – الصادقة الكاذبة – أثرًا تركته في النفوس، قطب خليل شوكت حانقًا، ونكس إبراهيم شوكت رأسه، والسيد نفسه ولو أن مظهره لم يعتوره تغيير إلا أن قلبه انقبض عند سماعه ما قيل عن العنوس كعهده من قديم".
لا يملك أحمد عبدالجواد إلا أن يتأثر في أعماقه، مستاء لإحياء الذكرى القديمة الموجعة، ويبرهن هذا التأثر على ما كان يعانيه قديمًا عندما كانت العنوسة حاضرًا يعكر حياته كأب حريص على مستقبل ابنته.
تتزوج خديجة وتنجب وتستقر في حياتها الجديدة، لكن التاريخ القديم لا يبرح ذاكرة الجميع. أفلا ينهض هذا دليلاً على خطورة فكرة العنوسة في الواقع الاجتماعي المصري؟