الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمد الباز يكتب.. أنيس منصور فى أحضان حسن البنا

عن الأيام التى كان يتباهى بها الكاتب الكبير.. أنيس منصور فى أحضان حسن البنا

محمد الباز يكتب :
محمد الباز يكتب : أنيس منصور فى أحضان حسن البنا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى كتابه الأهم -حتى يحين الكلام عنه مفصلا- «كانت لنا أيام فى صالون العقاد»، يحكى أنيس منصور كيف أن العقاد اكتشف أنه كان عضوا فى جماعة الإخوان المسلمين.
فى يوم فاجأ العقاد بسؤال مباشر أربكه: «وكيف يلتقى الوجوديون والإخوان المسلمون؟».
كان العقاد يعرف أن أنيس منصور أصدر كتابه الأول عن الوجودية، صدر الكتاب فى عام 1957، وكان عمر أنيس وقتها 27 عاما، وطبقا لتقرير نشرته مجلة «أكتوبر» فى وداع أنيس، فإنه كان يفخر بأنه أول كاتب عربى يكتب عن الوجودية، وهو كتاب صغير يمكن أن يندرج فى عداد الكتب التعليمية المبسطة، بلغة سهلة، وقد طُبعت منه أربع طبعات فى شهر واحد، ونفدت نسخه المائة ألف، وكان أنيس يفسر ذلك بأن الموضوع كان محل اهتمام الناس فى ذلك الوقت.
طبعا يمكنك أن تتحفظ على حكاية توزيع الكتاب لـ100 ألف نسخة فى شهر واحد، خصوصا أننا نتحدث عن عام 1957، وأعتقد أنه من الصعب أن يصل توزيع كتاب إلى هذا الرقم، لكنه أنيس الذى عندما يتحدث يصدقه كثيرون.
وصف مؤسس الجماعة بـ«الثائر» الذى تسلل بـ«هدوء ومكر» إلى قلبه المرشد الأول كلفه فى المساجد والإشراف على مكتبة الجماعة فى إمبابة روايات متضاربة حول انضمامه لــ«الإرهابية» وخروجه منها
أعود إلى صالون العقاد، يقول أنيس: «إذن لقد عرف أننى من جماعة الإخوان المسلمين فى إمبابة، إذن لقد أصبحت هدفا لرصاصتين خرجتا فى وقت واحد، ومطلوب منى أن أرد بسرعة، كيف أوفق بين الشيخ حسن البنا والفلاسفة الوجوديين الملحدين والمؤمنين؟ وما الذى أجده فى الإخوان مكملا للوجودية؟ أو ما الذى أجده فى الوجودية متماشيا مع الإخوان المسلمين؟».
وقبل أن يتحدث أنيس بأى شىء يخرجه من ورطته، تحدث العقاد، قال له: «لا بد أنك وجدت شيئا ما بين البنا والبدوى والعوض (كان يقصد عبدالرحمن بدوى ولويس عوض) ضع ثلاثتهم متجاورين، ثم قف بعيدا عنهم واحكم عليهم، هنا فقط سوف تجد أن نظرية لمبروز فى الشذوذ صحيحة مائة فى المائة».
استجاب أنيس للعقاد، وبينما هو يحدثه وضعهم أمامه، وتجرأ على أن ينشغل عن كل ما يقول، وقارن بين الثلاثة، فلم يجد تشابها، ولكن بقوله هو: «إن ثلاثتهم ثوار مختلفون، اثنان سياسيان، والثالث ليس سياسيا، وهو عبدالرحمن بدوى».
كان أنيس يرى أن حسن البنا ثائرا إذن، أما العقاد فكانت رؤيته للبنا واضحة، قال له: «القاعدة واحدة يا مولانا، من يأخذ منك حريتك فهو لص، سواء كان يضع على رأسه تاجا من الذهب، أو تاجا من الشوك، أو عمامة بيضاء أو سوداء، أو قفصا من السميط والبيض».
لكن كيف انضم أنيس إلى الإخوان المسلمين؟
يحكى هو فى واحدة من رواياته ما جرى، يقول: «السبب فى ذلك أننى انتقلت من الحياة مع والدى فى الزمالك إلى السكن فى حى إمبابة، وفى إمبابة كنت أتردد على المقاهى ألعب الشطرنج، وهى لعبة تحتاج إلى تركيز يرهقنى، فلم ألعبها كثيرا، ولم أتفوق فيها، لأننى دائم السرحان، وكان كل الذين يلعبون طلبة فى الجماعة، وأعضاء فى الإخوان المسلمين، ووجدتهم قد اختارونى أمينا للمكتبة».
يكمل أنيس حكايته بنفسه: «هذه هى البداية وهى النهاية أيضا، فقد كنا نلتقى فى المكتبة، ونقفل علينا الأبواب ونتناقش، وكانت المناقشات أعمق وأشمل وأعنف، وكانت أصواتنا تتعالى وتضايق المصلين، لأننا لا نصلى حاضرا معهم، ومرة لأننا نربكهم بأصواتنا العالية وهم يصلون، ثم أننا نسهر طويلا ونستهلك من الكهرباء دون أن ننتظم فى دفع الاشتراكات المقررة، لقد صبروا علينا كثيرا وطويلا، وأخيرا وجدت اسمى بين عشرين اسما على باب الجمعية مفصولين... والإمضاء المرشد العام حسن البنا».
عن نفسى أصدق هذه القصة المنسوبة إلى أنيس منصور، لكن المفاجأة أنه لم يكتف بما قاله عن وجوده داخل الإخوان عند هذه المرحلة، بل سعى لأن ينسج أسطورة حول انتمائه إلى الجماعة، فتسربت الحكايات منه وعنه.
أتوقف أولا عند واحد ممن تحدثوا عنه، قدمته الصحافة بعد موت أنيس على أنه كاتم أسرار الكاتب الكبير.
أتحدث تحديدا عن نبيل عتمان، بدأت العلاقة بينهما فى عام ١٩٦٦، طلبه أنيس ليكون مرافقا له، وعلى مدار ٤٥ عاما ظل ملازما له كظله، عرف عنه الكثير، واحتفظ الكثير من أسراره، وكان طبيعيا أن يتحدث بعد موته... وأعتقد أنه هنا مصدر ثقة.
روى نبيل عتمان قصص أنيس مع الإخوان فى حوارين أدلى بهما للصحف.
فى الحوار الأول قال: «باعتراف الأستاذ أنيس أنه كان عضوا فى جماعة الإخوان، وأن الذى قدمه للجماعة هو الشيخ حسن البنا، والحقيقة أنه وجد كما قال الأستاذ أنيس فى الإخوان ألفة، وكانوا يتعاملون معه بالقرآن الذى يحفظه، ولديهم مكتبة كبيرة جعلوه أمينا عليها فى مركز إمبابة، وكان يطلب منه كما يطلب من غيره كحافظ للقرآن أن يؤم المصلين فى عدد من المساجد ويخطب فيهم يوم الجمعة، وكان فى بداية حياته يطيع الأوامر فيذهب إلى المسجد رغم أنه من الممكن أن يسير ساعتين أو أكثر للوصول إلى المكان المقصود، وعندما يصل يعرف خطيب المسجد بأنه عضو فى الجماعة، ويطلب منه بناء على أوامر الشيخ أن يخطب الجمعة عندها يتنحى إمام المسجد جانبا ويمهد الطريق للشباب الصغير على أساس أن طاعة الأوامر أمر واجب».
وينقل عتمان ما قاله أنيس عن هذه الفترة: «كان هذا أمرًا مخجلا بالنسبة إلىّ، وهو أن يتنحى شيخ كبير لشاب صغير لا أدرى كيف فعلت ذلك، ولكنى أقدم العذر لهؤلاء الشباب الصغار الذين اعتادوا طاعة الجماعة».
هل لدى نبيل عتمان شىء آخر فى حواره الأول الذى أجرته معه مجلة «أكتوبر»، يضيف هو: «كان انضمام أنيس منصور إلى جماعة الإخوان المسلمين فى الثلاثينيات والأربعينيات شيئا عاديا، والانسلاخ منها شيئا عاديا أيضا، وإذا كان الأستاذ أنيس كان عضوا فى جماعة الإخوان فى بداية حياته، فإنه لا شك خرج منها، لأنها ضد مبادئه وأفكاره وكان هذا منذ وقت طويل».
فى حواره الثانى قال نبيل عتمان نفس الكلام تقريبا، لكن بصياغة مختلفة، لكن أعتقد أن إثباته هنا -لما سيأتى بعد ذلك- أمر مهم قال: «الأستاذ أنيس اعترف أنه كان عضوا عاملا فى جماعة الإخوان، وأن الذى استقبله هو المرشد الأول للجماعة حسن البنا، الذى استغل حفظ الأستاذ للقرآن وجعله أمين عام مكتبة الإخوان فى إمبابة، وطلب منه أن يؤم المصلين فى مساجد المنطقة، وكان الأستاذ أنيس يطيع أوامر المرشد فى بداية حياته، لدرجة أنه كان يذهب إلى أى مسجد يكلف بالخطابة فيه حتى لو كان بينه وبين مقر سكنه عشرات الكيلومترات، لكنه انفصل عن الجماعة وهو فى عز شبابه، لأنه رفض تعليمات المرشد التى تقوم على السمع والطاعة، وهى المبادئ التى تتنافى مع مبادئ الأستاذ أنيس».
انتهت شهادة نبيل عتمان الذى تم تقديمه إلينا إعلاميا على أنه كاتم أسرار أنيس، يؤكد أن أنيس انفصل عن الجماعة، لأنها تخالف مبادئه وأفكاره، رغم أن أنيس نفسه أكد أنه خرج من الجماعة مطرودا، لأنه لم يسدد الاشتراك، ولأنه كان يثير حالة من الشغب والصخب فى المسجد بما يؤثر على المصلين.
والأهم من ذلك أن أنيس منصور يشير إلى أن لعبة الشطرنج هى التى أدخلته إلى الجماعة، وأن شبابها هم من قادوه إليها، ولم يتحدث عن حسن البنا، لكن كاتم أسراره ونقلا عن أنيس فى جلسات خاصة يشير إلى أن البنا هو من اكتشفه، وهو من قدمه للجماعة، ولا يتوقف الأمر عند هذا، فقد استغله لحفظه للقرآن، وكان يطلب منه أن يخطب الجمعة.
لا أستطيع أن أكذب كاتم أسرار نجيب بالطبع، فأنيس نفسه وفى حوارات متفرقة مع الزميل الراحل وليد كامل، جاء بالذكر على حسن البنا شخصيا.
كان وليد على اتصال بى قبل وفاته بشهور، وكان يجهز كتابا يضم حواراته مع عدد من الكتاب والمثقفين، وأرسل لى بعضا منها، وكان من بينها ما كتبه عن أنيس منصور، ولأنى أثق فى وليد فإننى أصدق ما يقوله.
ينقل وليد عن أنيس منصور أن حسن البنا تسلل بهدوء ومكر ودهاء إلى قلب الفتى الصغير أنيس منصور، لينجح فى ضمه إلى جماعة الإخوان المسلمين، ويكلفه بعدها بمسئولية مكتبة الجماعة فى حى إمبابة، ليصبح أمينا عليها بجانب مهام أخرى كلفه بها من أهمها أن يؤم المصلين فى مجموعة كبيرة من المساجد، وأن يلقى خطبة الجمعة على المصلين فى مسجد حدده له البنا.
يقول أنيس: «كان البنا من الذكاء، بحيث إنه كان دائم التعامل معى بآيات القرآن الكريم، الذى كنت أحفظه منذ طفولتى، لكنه فى النهاية أدرك أننى غير قادر على هضم مبادئ السمع والطاعة وتنحية أفكارى وقناعاتى جانبا، وهم غير قادرين على احتمال وجود عقل يناقش ويجادل ويفهم حتى ولو كان عقل فتى صغيرًا، لذا كانت هجرة الجماعة والانفصال عنها هى آخر الطريق.
أكد أنيس لوليد كامل أنه وبعد فترة ليست بطويلة قرر الانفصال عن الجماعة التى وجد أن أفكارها لا تلائم قناعاته وأفكاره التى يحاول التأسيس لها فى تلك الفترة المبكرة من عمره، خصوصا مع وجود مبدأ السمع والطاعة على كل شىء يأمر به المرشد، وهو الأمر الذى لم يتحمله أنيس، فانفصل عن الجماعة بهدوء.
القصة كانت لها قفلة موحية بعض الشىء، فكما قال أنيس لوليد إن البنا لم يتعامل مع انفصاله على أنه انشقاق فى صفوف الجماعة أو خروج على أوامره، فقد كانت الجماعة فى بداياتها.

هل مطلوب منا أن نصدق أنيس منصور فيما رواه هو عن انتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين، أو ما رواه لآخرين نقلوه عنه؟
من ظاهر ما قرأت أعتقد أننى لست ملزما على الإطلاق بتصديق ما يقوله، خصوصا أن المبالغة بادية للغاية، وتحديدا لأن هناك روايات أخرى، تفسر انضمام أنيس إلى الإخوان، أو لنقل اقترابه منهم، وهذا هو المعنى الأكثر دقة.
فى بداياته كان أنيس ابنا لمجتمع قلق، الأفكار فيه تتصارع، لو سرنا معه فى رواياته المتضاربة عن انتمائه إلى الجماعة سنجد أنه دخلها فى نهايات الثلاثينيات، كان صغيرا لا يتجاوز عمره السادسة عشرة فى منتهاها -عام ١٩٤٠- ومن الطبيعى بتفوقه الظاهر أنه كان أسيرا لموجات فكرية عاتية، ومن الطبيعى أيضا أن يذهب بقدميه إلى جماعة الإخوان المسلمين، فى محاولة اكتشاف ما لديهم.
هنا سنكون أمام أزمة أخرى، فالمفروض أن أنيس منصور كان يتردد على صالون العقاد فى نهاية الأربعينيات، أشار هو إلى ذلك فى كتابه «كانت لنا أيام فى صالون العقاد»... والمفروض أنه فى هذه الفترة، كان قد انفصل عن جماعة الإخوان، لأنه لم يظل فيها فترة طويلة كما قال، فكيف إذن يسأله العقاد عن انتمائه إلى الجماعة، وكأنه كان لا يزال ينتمى إليها، وكيف يصرخ فيه كما قال هو: «انت مش فاهم حاجة يا مولانا»، لأنه كان يجمع بين جلسات جماعة الإخوان المسلمين، وجلسات جمعية التوفيق بين الأديان السماوية والوجودية.
ضع كل ما كتبه أنيس منصور عن علاقته بجماعة الإخوان المسلمين أمامك، وكل ما قاله لمن نقلوا عنه، وهؤلاء لا أشك فيهم، واستعد لتقرأ ما كتبه أنيس نفسه.

فى كتابه «طلع البدر علينا» -الطبعة الثالثة إصدار دار الشروق فى عام ٢٠٠٥، وكانت طبعته الأولى عام ١٩٨٤- يقول أنيس نصا: «فى إمبابة كنت فى جمعية الإخوان المسلمين، وكنت أمينا للمكتبة، وألقيت قصيدة أمام الشيخ حسن البنا، وكان رجلا لطيفا وظريفا، وصفق لقصيدتى عن الهجرة النبوية، وطلب منى أن أذهب للقائه فى المركز العام فى الحلمية الجديدة، وذهبت ولم أستطع أن ألقاه، ولكنه نصحنى بأن ألتقى واحدا من الإخوان وأطلب منه أن ينشر قصيدتى، وكنت سعيدا عندما ظفرت بالأخ، وكانت جريدة (الإخوان المسلمين) تطبع فى (الجورنال ديجيبت)، وظللت حتى الصباح أنا وبعض الأصدقاء واقفين على باب الجريدة حتى صدرت، وقلبت فى الصحيفة فلم أجد القصيدة، وكانت صدمة وخيبة أمل كبرى، مع أن الأخ قد وعدنى، فكيف يخلف وعده ولا ينفذ أمر الشيخ حسن البنا».
يستكمل أنيس منصور حكاية تجربته مع جماعة الإخوان، يقول: «وبعد أسابيع وجدت اسمى على باب مقر جمعية الإخوان المسلمين بإمبابة من المفصولين، والذى يرجى ألا يترددوا على الجمعية إطلاقا، وكانت مفاجأة مفزعة، وعرفت السبب فيما بعد، هو أننا لا نؤدى الصلاة فى أوقاتها، ثم أننا نستغل مكتبة الجمعية للمذاكرة ونستهلك الكهرباء ولا ندفع الاشتراكات».
■ ■ ■
ما الذى نفهمه من كل هذه الروايات والحكايات عن علاقة أنيس منصور بالإخوان المسلمين وحسن البنا؟
ببساطة شديدة، لم تكن هناك علاقة من أى نوع خاص بين أنيس ومؤسس الإخوان، لكن الكاتب اصطنعها على عينه، أضاف إليها وحذف منها، بما جعله يتخيل فى لحظة أن خروجه من الجماعة يمكن أن يعتبر انشقاقا، يهتم به حسن البنا، لكن الرجل الطيب لم يلتفت أو يتأثر أو يحاول استقطابه مرة أخرى إلى صفوف جماعته، وهو ما يشير إلى أن أنيس لم يكن شيئا مذكورا فى الجماعة.
حاول أنيس أن يوحى للجميع أنه كان عضوا عاملا فى الجماعة، وهى درجة متقدمة لم يكن ليصل إليها خلال الأسابيع القليلة التى عبر خلالها طريق الجماعة، وأنه خرج منها، لأن أفكارها لا تناسبه، ولا يتناسب معه مبدأ السمع والطاعة، رغم أنه فعليا وكما قال هو، تم طرده وإبعاده عن مسجد الجماعة ومكتبتها التى كان يذاكر فيها هو وأصحابه، بل إن قصيدته عن الهجرة التى يقول إن البنا نفسه اهتم بها وأشاد بمضمونها، لم تهتم بها مجلة الجماعة، ولم تنشرها.
علاقة حسن البنا بجماعة الإخوان وأيامه التى يدعى أحيانا أنه قضاها إلى جوار حسن البنا لم تكن إلا وهما، أو لنقل جزءا من الأسطورة الكبيرة التى كان يعمل على بنائها لنفسه.
لقد أضاف أنيس منصور لحياته حيوات كثيرة لم تحدث فعليا فى الحقيقة، للدرجة التى تشعر فيها أنه عاش أكثر من ألف عام، رغم أنه كان فى معظم أوقاته حبيس مكتبه وأوراقه وقلمه، ويبدو أن أشياء كثيرة لم يعشها، جعل منها واقعا على الورق فقط.
■ ■ ■
فى أرشيف أنيس منصور مقال يتصدر كتابه «أجيال من بعدنا» -صادر فى يناير ٢٠١٠- عنوانه «وكان رسول الله يكررها ثلاث مرات، أشار فيه إلى أنه مضطر إلى أن يقول ويعيد ويزيد، ويكرر ما سبق وقاله، فقد علق قارئ فاضل -هكذا وصفه- على أن التكرار ممل إذا كان بلا سبب»، ويرد أنيس: «وإنما أنا أعيد وأزيد لكى أكون أوضح، فمن أجل الوضوح تهون الشتائم والنقد واتهام الكاتب بالإفلاس».
ويسند أنيس منصور ظهره فى موقفه هذا إلى ما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم، يقول: «ومن الأحاديث التى تروى عن السيدة عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ليفهمه الناس، وقالت السيدة عائشة أيضا: إن رسول الله إذا قال كلمة كررها ثلاث مرات لكى نفهم منه، فهو صاحب رسالة لكل الناس، عامة الناس وخاصتهم، وهو أشد الناس حرصا على أن يكون مفهوما، وإن كان يدعو إلى الإطالة فى الصلاة والقصر فى الخطبة، وتقول السيدة عائشة إنه كان يفعل ذلك مخافة السأم علينا، والهدف واحد، وتأسيا بالرسول عليه الصلاة والسلام، فأنا أريد أن أكون فى متناول كل العقول صغيرها وكبيرها».
هدف نبيل هذا الذى كان يسعى وراءه أنيس منصور، لكنه لم يلتفت إلى أن التكرار يوقعه كثيرا فى التناقض، ولن أقول الكذب، رغم أنه فى كثير من الأحيان كان يكذب غافلا، وربما متعمدا، وأما حكاية الكذب هذه فحكاية أخرى طويلة، نحتاج إلى أن نبدأها من جديد.