الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

الحشيش وبنات الليل والزمالك في اعترافات نجيب محفوظ

الروائى الكبير نجيب
الروائى الكبير نجيب محفوظ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الحياة تبدأ بعد الموت أحيانًا
أنا كمال عبدالجواد الحقيقي
كنت زائر ليل لكل «بيوت الدعارة» والصالات والكباريهات: «حيوان جنسي» 

يدخل الروائى الكبير نجيب محفوظ اليوم عامه التاسع من حياته الجديدة. هل يعود «نجيب» الآن؟
ليس هذا السؤال.. من يسأل لن يجد إجابة.. ذهب «الراوى» إلى صحبة أبطال رواياته، ولا يزال يخلق بشرًا، يصيغ حكايات وسيناريوهات ونهايات تليق به وبحياته الأسطورية.. سواء قبل الموت أو بعده.
عاش «نجيب» ٩ أعوام من الحقيقة.. وفى الحقيقة.
هل يصلح هذا التشبيه لوصف كاتب روايات وراوى أكاذيب وأساطير وملاحم شعبية جار عليها الزمن؟
نعم.. لقد رأى فى أبطاله ما لا نراه، ولا يريد أحد أن يعترف به، فجعل له الله من اسمه نصيبًا.. والخلود قدر العظماء وأصحاب الملاحم. أشهد الآن أنه عاش، اقترب ورأى. وحياته التى تليق به. بدأت بعد الموت.
هو العائش فى الحقيقة، ومن سواه فى ضلال.
احتفظ نجيب محفوظ لنفسه بخصوصية ليست عند غيره، استطاع أن يوزِّع حياته وروحه على كل من حوله، كل يوم يخرج من يقول إنه جلس فى صالونه، وشرب معه شاى على مقهى «ريش»، وتناول معه الغداء فى وسط البلد، وسمع منه، وقال له، وعرف منه سرًّا خطيرًا، واعترافًا لم يجرؤ على نشره.. ولكن أين موقع كل هؤلاء من نجيب محفوظ؟ 
وهذه اعترافاته الخاصة، والشخصية.. يمكن أن تعتبرها «مذكرات سرية» تليق بعالم كامل من الأسرار متجسّد فى «راوى حكايات».
حين يقف أحدهم بجواره.. لا يظهر.. يختفي، ويتضاءل، ويبهت نوره تماما.
1
كل شيء يبهت بجوار نجيب محفوظ.. إلا الثورة، وعلاقته بها ممتدة منذ دراسته فى المرحلة الابتدائية، حين وقعت الثورة فى شوارع القاهرة.. يقول فى رواية «أصداء السيرة الذاتية»:
«دعوت للثورة وأنا دون السابعة. ذهبت ذات صباح إلى مدرستى الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق إلى سجن. بيدى كراسة وفى عينى كآبة. وفى قلبى حنين للفوضي، والهواء البارد يلسع ساقى شبه العاريتين تحت بنطلونى القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير:
بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا.
غمرتنى موجة من الفرح طارت بى إلى شاطئ السعادة ومن صميم قلبى دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد».
2
من يقول إن نجيب محفوظ «كافر».. لا يراجع سجل حياته، وليس مطلوبًا منه أن يراجع شيئًا، فالرجل أمام ربه يحمل أوزاره الآن.
ولكن سؤال قديم عن الصلاة يجيب عنه «نجيب»: صليت لأول مرة فى عمر ٧ سنوات تقريبًا، الصلاة ليست عبادة فقط، إنما رياضة نفسية وتجربة أخلاقية، وأول مرة صمت كانت فى السن نفسها، اقتداء بسيدنا «الحسين».
3
ما أصابه وصنع منه أديبًا محلّقًا فوق الدين والروايات وكل شيء؟ 
يجيب: «أصبت فى طفولتى بالصرع، وكان الصرع فى هذا الوقت من الأمراض القاضية، وكانت رسائل العلاج بدائية إلى حد ما وكان هذا المرض دائما ينتهى فى أيامنا بالموت أو الجنون، ولكن شفيت منه والحمد لله».
4
حماسة المظاهرات كانت تروق للطفل نجيب محفوظ، السياسة ليست مؤثرة فى حياته، هو طفل آخره أن يلعب، ويحصل على إجازة بسبب الثورة، كان عمره فى العاشرة، حين خرج فى أول مظاهرة يهتف: «تحيا سعد.. تحيا سعد».. ويروي: «أحدهم صحَّح لى هتافى قائلًا: يحيا سعد.. وليس تحيا سعد».
5
فى مرحلة أخرى، احترف «نجيب» المظاهرات والاشتباكات، والجرى من البوليس، وعساكر الاحتلال، والهروب فى الممرات ومداخل العمارات، وتحت البيوت المهجورة. حظه هذه المرة كان سيئًا، يقول: «التقيت برجال البوليس فى شارع قصر العيني، فى إحدى المظاهرات، طاردوني، وجريت وجرى ورائى عسكرى سوارى بحصانه، وظللت أجرى فى شارع سعد زغلول، حتى وصلت إلى (بيت الأمة)، قفزت فوق السور وفى اللحظة التى سقطت فيها داخل الحديقة بدون فردة الجزمة، واستقبلتنى صفية زغلول، وقدمت لى كوبًا من الشربات».
6
فى القاهرة كان نجيب محفوظ على موعد مع موقف ضد السابق تماما.. وقع فى فخ اسمه. 
طالب متفوّق حصل على المركز الثانى فى السنة الدراسية الأخيرة بكلية «الحقوق»، والأوائل يتقدمون لمنح وبعثات دراسية فى أوروبا وأمريكا، اتجاهات الدولة كانت ضد الأقباط، وحين قرأ مسئول اسمه فى الكشف «نجيب» اعتقد أنه قبطيّ.. يقول: «ردًا على الاسم الذى يشبه أسماء الأقباط، حذف اسمى من قائمة المرشحين للمنحة نهائيًا وخسرت أهم منحة كانت على وشك أن تغير حياتي.. والحمد لله أنها لم تتغير».
7
يقول «محفوظ»: «عشت فى العباسية أول قصة حب حقيقية فى حياتي، وهى قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها، كنت أيامها على أعتاب فترة المراهقة، وقبل أن أدخل هذه التجربة كانت علاقتى بالبنات لا تزيد على مداعبات تتجاوز الحد أحيانا وكانت هذه التجاوزات البريئة تصطدم بالإحساس الديني، لدرجة أننى كنت أتوجه إلى الله يوميا، وأعيش فى عذاب مستمر من تأنيب الضمير».
8
كان يريد أن يتشبّه بكل أولاد زمنه، أحبّ فتاة أكبر منه، كانت فى العشرين، وهو لا يزال عمره ١٣ سنة، يقول: «ما جذبنى إليها غير الجمال أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتى عرفهن قبلها، فلم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبى فى مظهرها وتحركاته».
9
حياة نجيب محفوظ ليست كتابًا مفتوحًا، هو كتوم، يحافظ على تفاصيل يومه سرًّا، وأمرًا شخصيًا «ممنوع اللمس أو الاقتراب». تفسير واقعى لعدم كتابة مذكراته، التى قال فيما بعد: «اعتبروا ما كتبه جمال الغيطانى ورجائى النقاش مذكراتي».
مذكرات «الغيطاني» و«النقاش» كانت أقرب إليه، فقد كانا جزءا كبيرا من قصة حياته، وأصداء سيرته الذاتية، ليس مجرد شهود مثل «صبى المقهى»، وسكرتير مكتبه.
ما يضع حكايات «الغيطاني» فى خانة «ذكريات لا مذكرات» هو أنها خالية من قصص نجيب محفوظ الشخصية.. ولماذا لا يكتب مذكراته الشخصية؟ 
يمكن أن تكون الإجابة ما قاله للكاتب الصحفى محمود فوزي: «حياتى العاطفية لم تكن بريئة أبدًا، كنت مغامرًا فى الحب والعلاقات النسائية.. وكنت زائر ليل لكل بيوت الدعارة السرية والعانية».
10
يحيط نجيب محفوظ نفسه بضوء خافت أسطورى يصوِّره كفتوة من فتوات ملاحمه الشعبية، يهيل بالتراب على من يقترب منه، ويغتاله على الورق، فالرجل لا يدخل معارك فى الحياة، ولا يعارض رئيسًا، ولا يحمل فى قلبه أو عقله رأيًا، لقد خلقه الله صاحب انفعالات وليس صاحب آراء.
ومن بين اعترافاته عن الفترة التى سبقت الزواج، قال «نجيب» لرجائى النقاش: «عشت حياة عربدة كاملة، كنت من روّاد البغاء الرسمى والسري، ومن رواد الصالات والكباريهات، ومن يرانى فى ذلك الوقت لا يمكن أن يتصور أبدًا أن شخصًا يعيش مثل هذه الحياة المضطربة، ويمكن أن نصفه بأنه حيوان جنسى يمكن أن يعرف الحب والزواج».
11
حمل نجيب محفوظ على كاهله «أسفارًا وأسرارًا» تليق به، وبعظمته، وغموضه، وغضبه.. كشف عن بعضها فى رسالة إلى أحد أصدقائه جاءت فى منتصف حياته، يقول: 
«عرفت هذا الصيف أديبًا شابًا موهوبًا ولطيفًا معًا، ولهذا الأديب عوامة نقضى فيها نصف الليل ما بين الحشيش والأوانس.. وانقلب أخوك شيئًا آخر، بل علمنى البوكر سامحه الله فغدوت مقامرًا، وليس بينى وبين دكتور الأمراض التناسلية إلا خطوة، فانظر كيف يتدهور الأديب على آخر الزمن.
12
يعترف نجيب محفوظ: «نظرتى للمرأة كانت جنسية خالصة، ليس فيها أى عواطف أو مشاعر، وإن كان يشوبها أحيانًا شيء من الاحترام ثمّ تطوّرت هذه النظرة، وأخذت فى الاعتدال بعدما فكّرت فى الزواج والاستقرار».
13
اعترف نجيب محفوظ أكثر من مرة أنّ شخصية كمال عبدالجواد ترجمة لشخصيته فى الواقع: «كنت مدمنًا للحشيش ومرافقًا لكثير من النساء فى شبابي، وخشيت على نفسى من الإصابة بالأمراض السرية نتيجة مغامراتى العاطفية».
14
«شلَّة العوامة» شهدت وصاغت صفحات من السيرة الذاتية لـ«الروائى العالمي».. وهى كما يقول: «مجموعة من الأصدقاء كانوا يستأجرون عوّامة على النيل؛ لقضاء السهرات التى لم تكن تخلو من البيرة والحشيش».. وانضمّ إليها بعد طول إدمان لـ«شلة الحرافيش» بكل رجالها، صلاح جاهين، وجمال الغيطاني، وتوفيق صالح، وغيرهم.
15
من قرأ «ثلاثية» الأديب المغربى محمد شكري، التى كشفت اعترافاته، وفضائحه، وتفاصيل «قذرة» فى حياته، وصنعت أغلب تاريخه، وقيمته الأدبية، يعرف قيمة اعترافات نجيب محفوظ.. حين سألوه: «أليس من الأفضل ألّا تكتب هذه الروايات؟ ولماذا تكتب؟».. ردّ مستغربًا: «الله! واحـد جاء ياخذ اعترافاتي، وأنا جلـسـت معه على أساس أن أقول كلّ شـيء عن حـيـاتي.. أقــوم أخفيها!؟ طيّب ما كنت رفضت من الأوّل.. هو حَدْ غصبْني!؟».
16
فى كازينو قصر النيل المطلّ على «نيل القاهرة» بالقرب من تمثال سعد زغلول، كان المحيطون بـ«نجيب» هذه المرة أكثر عددًا من كل مرة. سمع أكثر مما تكلّم، وكان الكلام يدور حول المشاكل الجارية فى مصر، حمّل أحد الحاضرين المسئولية على التليفزيون.. لماذا؟.. لأنه لا يقوم بدوره، ومادام الناس أمام التليفزيون ليل نهار لا بد أن يحل المشكلة الاقتصادية، فرد «نجيب»: 
«إزاي؟ هل يمكن للتليفزيون أن يبث للناس سندويتشات بدلًا من المسلسلات؟».
17
«سان ستيفانو» تحتلّ ركنًا مظلمًا فى ذاكرة نجيب محفوظ، عندما مات توفيق الحكيم وكان واحد من دراويشه الذين يحضرون صالونه فى «الشانزليزيه»، اختار «أديب نوبل» أن يغير «العتبة» احترامًا لذكرى صديقه الراحل، فاختار فندقًا آخر، وسمى صالونه «برلمان سان ستيفانو»، وكان يتقبل من أعضاء الصالون النكت والقفشات والسخرية، ويقول: «نحن هنا فى برلمان سان ستيفانو، بديل برلماناتنا الزائفة.. لا إبداع بدون حرية، ولا نهضة بدون صندوق انتخابات شفافة ونزيهة.. كل واحد يعبر عن نفسه من منظور ثقافته وإدراكه الخاص». 
18
رفض «نجيب» أن يحتلّ موقع توفيق الحكيم النفسي، أو يأخذ مكانه أو صالونه من بعده. الصالون كان اسمه «توفيق الحكيم»، يقول فيه «راهب الفكر» ما عنده لمدة ٣ ساعات لا يقبل مقاطعة، ولا مناقشة، ويحصل على حقه كـ«ديكتاتور» لآخر لحظة، واختار ندوة جديدة فى فندق آخر، ويقول عن علاقته بـ«الحكيم»: «علاقة أستاذية أكثر منها علاقة خاصة».
19
يقول محمد سلماوي: «فى عام ١٩٨٣ صدرت لى أول مجموعة قصصية بعنوان (الرجل الذى عادت إليه ذاكرته)، وعندما جاءت البروفة النهائية من المطبعة قررت أن أهديها إليه، ولما أرسلتها له فوجئت به يرسلها لى مرة أخرى، وبها تعديلات بالقلم الرصاص». 
نجيب محفوظ يردِّد العبارة التى وقّع بها نسخة «سلماوي»: «قرأت مجموعتك واستمتعت بها وأبديت بعض الاقتراحات علها تعجبك، ولو لم تعجبك امحها بالأستيكة».
20
عباس العقاد تنبأ لنجيب محفوظ بما جرى له تماما. كان يرى المستقبل، ويتحسسه منذ البداية. 
يقول: «فى حديث تليفزيونى أذيع قبل وفاته بقليل قال إن عندنا فى مصر من يستحق الفوز بجائزة نوبل، وذكر اسمي، وبعد حوالى ربع قرن تحققت نبوءته».
21
يقول نجيب محفوظ فى مذكراته: «فى البداية عندما كنت أكتب، كان يطلع لى عفريت يقول لي: ما جدوى ما تفعله؟ لماذا تغلق الغرفة عليك؟ ما هذا النظام الصارم؟ يا راجل انزل هيص لك شوية! لكنى كنت أصرف هذا العفريت فى النهاية، وأفرض على نفسى مزيدًا من صرامة النظام».
22
عندما نزل «باولو كويلهو» إلى يد نجيب محفوظ، قبّل ما تيسَّر له منها، وقال: لا بد أن أقبّل هذه اليد التى كتبت لنا بعض أعظم روائع الأدب الإنسانى المعاصر. 
لم يردّ «نجيب» من الخجل، وحين سألوه: «لماذا تكتب؟».. قال: «إننى أجد سعادتى فى الكتابة، فهى بالنسبة لى ليست وظيفة أتكسب منها، إنما هى مهنتى التى أحيا من أجلها».
23
من بين ما يتناقله الأصدقاء عن «نجيب» إن باولو كويلهو سأله: «لماذا لم تكتب سيرتك الذاتية؟».. فردّ: «ليس فيها ما يهم أحدا».
24
اتهام: «نجيب محفوظ» يرمز إلى الله بـ«الجبلاوي» فى رواية «أولاد حارتنا».
ملحوظة: صحيفة «الأهرام» شدَّدت على أن نجيب محفوظ حصل على جائزة «نوبل» عن رواية «أولاد حارتنا».
هجوم: قنابل التيار الدينى على نجيب محفوظ تضاعفت ليس فقط لإهانة الذات الإلهية، وسبّ الله ورسله وكتبه، إنما لأنه أصبح مدفوعًا لتشويه الإسلام من دول أجنبية، ومدفوعًا له من جائزة دولية «مشبوهة» وقائد مخطط كبير لـ«الحرب ضد الله».
تصحيح: نجيب محفوظ حصل على جائزة «نوبل» عن مجمل أعماله، وليس «أولاد حارتنا».
سؤال لـ«أديب نوبل»: ما رأيك فى الاتهامات التى تحاصرك بأن الجائزة كانت مكافأة لك على «ازدراء الأديان»؟
الإجابة: «هذا اتهام غير موضوعي، لأسباب عديدة منها: إن النقد الموضوعى للرواية ينفى عنها الهجوم على الإسلام والديانات السماوية».
25
نجيب محفوظ متهم الآن.. كما جرى فى كل مناسبات حياته. 
هذه المرة، الاتهام من صديق. 
يقول مصطفى «محمود» إنه فى رواية الطريق يرى الله أبا وهميا، وفى «أولاد حارتنا» جعل الإله يموت فى آخر الرواية مهزومًا تحت عجلات العلم والعقل. هل لدى «نجيب» أقوال أخرى؟ 
يقول: «لكل شيخ طريقة، ومصطفى محمود ظلمنى كثيرًا، وأخطأ فى الحكم على كثير مما جاء فى كتبي، ولو كان عنده وقت لقراءة الرواية، سيجد أن الله موجود، والعقل أيضًا».
26
فى حوار قديم مع نجيب محفوظ، قال الكاتب الصحفى إن رواية «التنظيم السري» كانت تكثيفًا - وتلخيصًا – لرواية «أولاد حارتنا»؛ إذ إنها لا تشير – كما اعتبرت فى ذلك الوقت – إلى ٣ من زعماء مصر الراحلين، ولا قصة سياسية، الكلّ وقع فى فخ الاسم السياسي، لكن التفسير الذى رضى به ورضى عنه «نجيب» وقال لصاحبه «برافو عليك» كان «هذه قصة ترمز لأتباع الديانات الثلاث».
27
مثل الأكلة الحلوة، تفسدها رشة شطة جريئة.
احتفظ نجيب محفوظ بشهادة جائزة «نوبل» فى دولاب مكتبه، ولم يتغير أى شيء فيما يكتبه، أو يقوله، ولا زادت رواياته رواية عالمية، ولم يصبح أديبًا عالميًا، لقد استغرب وصفه بالأديب العالمي، وأديب «نوبل»، اعتبره اعترافًا «متأخرًا» بعظمته، فالآلهة يضيقون بمن لا يمنحهم «وضعًا خاصًا»، وهو كان يرى نفسه إلهًا آمن به أنصاره فى الوقت الضائع. 
وهل كان «نجيب» تافهًا أو لا شيء قبل أن يتسلّم «نوبل»؟
فوجئ الرجل بكمية طلبات الحوارات والتسجيلات الإذاعية واللقاءات التليفزيونية الضخمة، والأخبار، واسمه فى مانشيتات الجرائد، وقال ضاحكا: «لقد أصبحت موظفا عند نوبل!».
28
فقدت مصر لاعبًا ليس أقل مهارة من محمود الخطيب، وحسن شحاتة، وفاروق جعفر، اسمه نجيب محفوظ. أحبّ كرة القدم، لعب ١٠ سنوات خلال دراسته الابتدائية والثانوية، وفى أوساط «الكرة الشراب» كان اسمه «أبو الروس»؛ لأن ضربة دماغه لم تكن تخيب هزّ الشباك. 
ثم لم يأخذه من الكرة إلا الروايات، يقول: «كنت لاعبًا حريفًا كما يقولون، ولو كنت مستمرًا فى هذا لكنت لاعبًا مشهورًا فى أحد النوادى الكبرى، انتمائى للزمالك انتماء تاريخي.
29
هل فى حياة «الجبلاوي» الأصلى الذى اعتقد نفسه قادرًا على كل شيء، هوايات وأعمال أخرى؟.. الموسيقى. 
يقول: «عندما أقرأ لا أقرأ بصوت عال وإنما همسًا، أى أننى غير معتاد على العمل باستخدام الصوت، صوتى لم أستخدمه إلا فى الغناء، كنت أغنى الأغانى القديمة».
30
«عبد الوهاب» كان شبيه الآلهة، يغسل الصابونة، ويسلّم من بعيد، ولا يسلَم من «الطفل نجيب محفوظ». يروي: «عندما كنت أسكن فى العباسية، كنت أرى محمد عبدالوهاب قادمًا بالتزام محتضنًا عوده، فأقترب منه فى خجل، وأقول له: مساء الخير يا أستاذ، فيرد عليّ: مساء الخير.. ويرحل فى صمت».
31
ولكن.. هل استسلم الرجل الغامض لسحر «عبد الوهاب»؟
انطلق إلى عوالم أخرى، وأزقة ضيقة، عبدالحليم حافظ مثلًا، يقول: «هو من الأصوات الأخاذة بلا شك، ولكن أنا أعترض عمن يتكلم عن عبدالحليم وكأنه عصر موسيقى أو كأنه مؤلف.. أساس مجده كمال الطويل ومحمد الموجي، الاثنان اتبنى عليهم هرم عبد الحليم حافظ».
32
ليلى مراد كانت جارة «نجيب». هل أتاك حديث أهل الفن فى حضرة «الجبلاوي»؟ 
السؤال يحتاج إلى أكثر من إجابة، لكن الكلام هنا عن ليلى مراد، يقول: «ليلى مراد كانت قريبة منا هى ووالدها زكى مراد، وهى وداد صابر مكى فى رواية (صباح الورد) ولكن مع إضافات من الخيال».
33
وهل عشق نجيب محفوظ «فيروز»، وكان يسمع أغنياتها وهو يحتسى القهوة ليلًا؟ 
ربما.. ماذا عنده الآن؟ 
صوت «فيروز» - بالنسبة له – مثل عفاف راضي، ونجاة، «هو حلو، يعنى حتى وهى تتكلم تذكرك بالطير والبلابل، أم كلثوم ليست كذلك». 
34
مكالمة تليفونية من أم كلثوم إلى نجيب محفوظ.. لم يعجبه صوتها، يقول: «أم كلثوم كلمتنى فى التليفون توصينى على حلمى رفلة، وأنا تهيأ لى أن من يكلمنى رجل والفرق بينها وبين فيروز مثل واحدة تغنى لك وهى جميلة، بالتأكيد ستؤثر عليك من مطربة أخرى صوتها أجمل، ولكن شكلها عادي». 
35
مع الفنانات ذلك أفضل جدًا، علاقة «نجيب» بهنّ عابرة، فقد كان حبيسًا داخل مكتبه والمقهى، يكتب، لا يستسلم لأحد، ولا تغريه غواية النساء، فقد أدمنهنّ حتى الملل، كانت لديه تدريبات على القسوة، وآراء لا تخلو من المبالغة، يقول: «سعاد حسنى أجمل نجمة عرفتها مصر، والفنانة شادية اهتدت لما هو أعظم من النجومية».
36
فى رمضان عرف الشيخ زكريا أحمد وقضى معه سهراته: «جمعنا فى ليالى رمضان المليئة بالخير والذكريات التى لا تنسى وكنا نسهر فى هذه الدار وكان الشيخ زكريا يغنى للصحبة المجتمعة بالدار.
أما سيد درويش الذى كنت أحبه وأعشقه وعشقت سماع حكاياته مع أساطين الغناء والتلحين فى عصره وفى بعض الأحيان كان يسمعنا ألحانه الجديدة قبل أن يسمعها المطربون».
37
يحمل «نجيب» فى قلبه غضبًا وقهرًا وظلمًا من المجتمع الذى وجد نفسه مؤرخًا له، القصة التى ذكرها فى «أصداء السيرة الذاتية» تشير إلى شيء حقيقى فى حياته ليس مطابقًا لما كتبه بالضبط.. يقول: 
فى غمار جدل سياسى سأل أحد النواب وزيرا:
هل تستطيع أن تدلنى على شخص طاهر لم يلوث؟
فأجاب الوزير متحديًا:
إليك على سبيل المثال لا الحصر: الأطفال والمعتوهين والمجانين.. فالدنيا ما زالت بخير. 
38
من أقوال نجيب محفوظ عن السياسة فى صالون «سان ستيفانو»: «نحن شعب يبحث عن هويته وبدائيات وجوده، لذا كان لا بد أن تحتل السياسة أعلى المراتب فى سلم اهتماماتنا».
39
لعنة السياسة لا تزال تطارده، وتزعج نومه، رغم أنه يهرب منها إلى خيالٍ أوسع، فالسياسة لعبة قاسية بلا خيال، تتعب الأدباء والشعراء، وأصحاب القلوب «الضعيفة»، يقول: «تحدثت عن عزلة الشعب من نظام الحكم وبعض الحشاشين أوشوا بى عند جمال عبد الناصر، وعلمت أن عبد الحكيم عامر قال عني: لقد تجاوز الحد، ويجب تأديبه».
40
يقول نجيب محفوظ: «أنور السادات ضحك عليّ». 
هل يزيد؟
يقول «السادات» إن «ميرامار» فيلم عظيم ومن أحسن الأفلام التى شاهدها فى حياته، والقصة التى سبقت التصريح تستحق أن تروى، يقول «نجيب»: «الاتحاد الاشتراكى طالب بمنع الفيلم لأنه يهين الثورة، وكلف عبد الناصر أنور السادات بمشاهدة الفيلم وإبداء الرأي، وأنا منتظر أن الطبيعى السادات يقول إن الفيلم ماشى ولا أعترض عليه، ولكنى فوجئت أنه عمل دعاية للفيلم ولا بمليون جنيه وصرح بأنه عظيم، ولكن بعدها عرفت أن هناك خلافات بينه وبين على صبري، ولذلك جاء مدحه للفيلم نكاية فى على صبرى والاتحاد الاشتراكي».
41
رأى «نجيب محفوظ» الحقيقى فى أنور السادات ومعاهدة «كامب ديفيد» يمكن أن تخرج به من قوله: «فى الحروب، أنت تنتصر أو تنهزم. وإذا انهزمت ليس أمامك سبيل آخر إلا الصلح حتى تبنى قوتك من جديد وتصلح من أحوالك». 
42
«بعبع التطبيع» يطارد من يقول إنه يريد أن يزيح الستارة عن فتحة الشباك بين مصر وإسرائيل. هل الجملة سطحية؟
«تل أبيب» تطلّ على القاهرة من شباك واسع مفتوح إلى آخره على يد الرئيس الراحل، أنور السادات، يدّعى البعض أنه لا يراه، ولا يعترف بوجوده، لكن ذلك لا يعنى أنه غير موجود. الشباك موجود ومفتوح وواسع. من يريد أن يخترق يحترق بنار الحروب والدمار الذى كانت له أيامه، وانتهى. 
احتفظ «نجيب» بموقفه من إسرائيل سرًا قبل أن يجد نفسه على خط النار، نقاد من إسرائيل يدرسون أدبه، صحفيون يطلبون حوارات معه، كتاب كبار يطلبون لقاءه، ترك الشباك مواربًا، وأزاح الستار، لكى يرى ما يقولون عنه، وما يريدون منه، فوضع نفسه أمام تهمة بالخيانة العظمى.. كأنه مجرم حرب. 
باحث إسرائيلى اسمه بيليد – يعمل أستاذا بالجامعة العبرية فى تل أبيب - أرسل له خطابا - من الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٧١ – طلب منه إرسال بعض المعلومات تساعده فى رسالة دكتوراه يعدها عنه، يقول:
عندما قرأت هذه الرسالة شعرت بضيق فى البداية، ثم قلت لنفسى إننى لن أعوق شخصا يريد أن يعد رسالة جامعية عني، حتى أسأل عن ديانته أولا. وهى أننى أميل إلى الاتجاه الإسلامى وليس الماركسي، كما قال النقاد العرب. وذلك من وجهة نظره يرجع إلى أن نهايات رواياتى تتوافق إلى حد كبير مع المبدأ القرآني:
«فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره».
43
من نكت نجيب محفوظ: «إذا وقعت عاهرة من عاهرات روايته فى البحر، تطبّ ولا تغطس؟».. سأل حرافيش مقهى «ريش» هذا السؤال، قابلوه بجدية زائدة عن الحد، فقال: «تغطس».. ليه؟.. «لأنها...».
كان «ابن نكتة» يغلب أقوى وأشرّ الناس بـ«خفة دمه»، وكان يحبّ «السادات» لأسباب تافهة جدًا، ومؤيدًا للسلام مع إسرائيل أيضًا.
يروى جلال أمين أن «نجيب» سمع نقده الشديد لما فعله السادات بمصر، وبعد أن انتهى من تقديم أسبابه، وعرض رأيه.. قال له مبتسمًا: «ولكن لا تنسى أنه فعل أشياء جيدة».. ما هى إذن؟.. قال: «إنه مات».
44
احتفظ نجيب لنفسه بخصوصية شديدة على حياته الشخصية، وآرائه السياسية، هو - أصلًا – ليس صاحب آراء، إنما انفعالات تظهر فى رواياته، موقفه من فلسطين، وصفقة «كامب ديفيد» لا يعجب أحدًا، ابتعد، مفضِّلًا أن يركن رأيه فى أقرب صندوق ذكريات، الملفت - فقط - رأيه فى ياسر عرفات، يقول: «هو رجل (يصعب على الكافر)، لأنه طوال عمره يجاهد فى سبيل فلسطين، واليوم حياته مهدَّدة، ويتم رميه بالخيانة من فلسطين».
45
هل كان نجيب محفوظ ملحدًا؟
السؤال لا يحتاج إلى إجابة، الدين علاقة بين الإنسان وربه إذا خرجت إلى الإعلام والحوارات الجانبية تحوّلت إلى «لعنة» تطارده إلى يوم القيامة، سواء كان نبيًا، أو شيطانا، أو يستقرّ فى منطقة بينهما. 
السؤال بصيغة أخرى.. هل تدين «نجيب» سمح له بلقاء ربه وهو فى ثقة من دخول الجنة؟
وهل كان يؤمن بالجنة والنار والحساب والعقاب والعذاب من الأساس؟ 
كل هذه أسئلة تبحث عن إجابة لمن أحبّ دين نجيب محفوظ، ولم يعشق صاحب الملاحم الشعبية وحده، وهناك تفاصيل صغيرة تكشف علاقته بالله لمن يريد أن يعرف، وفى مساحة أخرى، تكشف تماهيه مع الحالة فى مصر، مهما كان غير مهتم بها، بل يعتبرها «عبثا كاملا».. يقول: «شهر رمضان يحرك فى نفسى ذكريات كثيرة تجعلنى أشعر بالبهجة كلما أتذكرها، أذكر أننى بدأت الصيام وعمرى سبع سنوات وكنت حريصًا جدًا على أن أصعد فوق سطح بيت القاضى بالأزهر لأرى مؤذن مسجد الحسين وهو يؤذن لصلاة المغرب.
46
المذكرات الدينية لـ«نجيب محفوظ» لا تخلو من أسماء لها العجب، فالرجل الذى كفّر فرج فودة، وأورده موارد الهلاك والهالكين كان هو على ناصية المعجبين به، يقول: «أنا معجب بالشيخ الغزالي، وتبهرنى شخصية عمر بن الخطاب، وعظمة عليّ بن أبى طالب».
47
قبل رحيل نجيب محفوظ بعام واحد، خلال انتخابات مجلس الشعب، التى ترك فيها «الحزب الوطني» براحًا سياسيًا سمح لغيره بـ«تقديم وتأخير رجل» فى البرلمان، فأجأ «نجيب» حرافيشه فى جلسة خاصة وقال: «يبدو أن المصريين عايزين يجربوا حكم الاخوان».
48
احتفظ نجيب محفوظ لنفسه بحق كراهية الجماعات الإسلامية. كان مدفوعًا بشيء آخر، مختلف عن بقية أعداء الإسلاميين فى مصر، وهو الثأر الشخصي. بجملة أقصر تستطيع أن تقول إنهم «ذبحوه» بشعاراتهم المأخوذة من الإسلام، وفى مناسبة أخرى، حين اقتحم مجلسه صديق، وسأله عن الإسلاميين، ردّ: «لا تقل إسلاميين، قل متنطعين».
49
ضد «الإخوان» ذلك أفضل جدًا. 
اسمعوا إلى من يقول إن نجيب محفوظ هو شيخ الطريقة، وكل من يأتى بعده من أتباعه ودراويشه، سواء فى الأدب أو السياسة، أو الفلسفة، لقد جاء بآخر كل شيء ووضعه بين صفحات كتبه، يروى قصة لقائه مع حسن البنا: «عبد الحميد جودة السحار كان ميالا إلى الإخوان، دعانى مرة لمقابلة الشيخ حسن البنا، ولكنى رفضت الدعوة بكل إصرار».
50
سؤال لنجيب محفوظ.. هل سيد قطب متورط فى محاولة اغتيالك؟
الإجابة ليست عند «الروائى العالمي»، والسؤال لم يسأل فى حضرته.. لقد كان «نجيب» صديقًا مقرَّبًا من «قطب» للدرجة التى صنعت لهما تشبيهًا «قطب كظلّه فى ساعة الظهر»، وأول ناقد قدّم روايات نجيب محفوظ هو سيد قطب، الذى كان شاعرًا عاطفيًا مرّ بقصة حب فاشلة كما يقول «نجيب»: «كتب رواية صاغ خلالها سيرته الذاتية وشرح معاناته النفسية بعد قصة حب فاشلة تخللتها لقاءات غرامية استخدم فيها لغة (بورنو)».
ويضيف: قصة سيد قطب مريرة وعجيبة فهذا الرجل بدأ حياته ملحدًا، ودام إلحاده ١١ عاما، وبرز ذلك فى رواية «أشواك»، التى حاول أن يتبرّأ منها بعد انضمامه لـ«الإخوان».
51
آخر لقاء بين «نجيب» و«قطب» كان شبيهًا باصطدام كرة النار بالجليد الساخن، أديب متهم بالإلحاد أمام شاعر دخل السجن، وذاق العذاب بالكهرباء والكرابيج، والتحم بالإسلاميين والتكفيريين، وأنصار حسن البنا، وخرج كارهًا للمجتمع والناس والحياة وكل شيء حلو، وكفّر «طوب الأرض».. يقول «نجيب»: «كانت المرة الأولى التى ألمس فيها بعمق مدى التغيير الكبير الذى طرأ على شخصية صديقى القديم وأفكاره، لقد رأيتُ أمامى إنسانًا آخر، حاد الفكر، متطرف الرأى، يرى أن المجتمع عاد إلى الجاهلية الأولى، و«أنه مجتمع كافر».
52
هل كان طبيب نجيب محفوظ يعلم أنه كان يخبئ علبة سجاير فى جيب سرى ملحق بملابسه الثقيلة؟.. بالطبع لا. 
هذه قصة يكشف عنها الدكتور يحيى الرخاوي، يقول: «نظر إليّ الأستاذ وهو يأخذ شهيقًا عميقًا، وسألنى مترددًا: بمناسبة هواء الحرية.. هل تضر سيجارة واحدة لا أكثر؟.. وحين وافقت لمحت وجهه يشرق راضيًا ممتنًا.. وأخرج سيجارة من علبة سجائر كان يحتفظ بها فى جيبه، وفوجئنا، وتساءلنا، فاعترف لنا أنه لم يجد داعيًا للإعلان عنها، لكنه يضع سيجارة فى جيب خفى لديه سرًا طوال الوقت».