الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رقابة على أمي "6"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى الرابعة الإعدادية نقلت لمدرسة على عبداللطيف لأن السفارة الأمريكية اشترتها لتكمل مربعها كله، وهناك اكتشفنى مدرس اللغة العربية، كان مختلفا، اسمه إسماعيل الصيفى وكان شاعرا وقصاصا أيضا، وقد لاحظ أنى أفضل من كل زملائى فى كتابة الإنشاء (وما زالت أحتفظ بكراستى الذى كان يعطينى فيها أعلى الدرجات) ثم اختارنى رئيسا لجمعية القصة والشعر وكان أول اجتماع لنا مناقشة قصتى (ابن القباقيبي) التى طبعها لى أبي.
وكتبت فى مفكرتى (كان من ضمن النقد أن القصة فيها شىء من الخيال خاصة عندما كتبت أن أفراد فرقة القباقيبى أوهموا الإنجليز)، وفكرت فى الدفاع عن نفسى لكننى لم أستطع أن أقول إن يد أبى تدخلت ولعبت فى القصة فألف نيابة عنى بعض المواقف الخيالية ولكنى سجلت فى مفكرتى ما حدث فكتبت (... وساعتها خجلت ولو أن نفسى تعرف الحقيقة)! ولأنى لم أتعود على الكذب، لم أشعر بالزهو رغم الثناء عليّ، بل كان الخجل رقيبي. فأبى لم يتدخل فى ما أكتبه بالحذف، وإنما بالإضافة! وهو أيضا رقابة مؤلمة وسأعرفها مرات لكن بواسطة الممثلين الذين يقدمون بعض مسرحياتى فيخرجون عن النص ليستخفوا دمهم!.
وقد تكرر إجبارى على الكتابة ثانية وكان ذلك على يد أستاذى إسماعيل الصيفى نفسه لكن بدون قصد، فقد قرر علينا موضوع إنشاء هجائى ضد عبدالكريم قاسم فى العراق لميوله الشيوعية وطبعا كان هذا مفروضا على كل المدارس، وبعد كتابة أسطر قليلة توقفت وقد عجزت عن مواصلة الكتابة فقد راقبت نفسى واعترفت لها أنى أكذب فلم تطاوعنى نفسي، فربما أضطر أن أكذب على أبى مثل كل المراهقين لكن لم تطاوعنى نفسى أو قلمى أن أكذب على نفسى قبل أن أكذب على أستاذي.
واحتار المدرس، فلم يضع درجة للموضوع وإنما رسم علامة استفهام وبجوار ذلك رسم شكل ناقوس المدرسة وعلامة إكس عليه وكتب (ليت الناقوس اللعين لم يدق حتى يتم استمتاعنا بهذا الوهج القومى الرفيع). أما أنا فلم أغضب منه لكنى كتبت فى أجندتى أشيد بما فعلته!
وانتهزت فرصة وجودى بالعمل فى مطبعة أبى لعمل مجلة أخرى مطبوعة أنا وأولاد عمى وأسميناها هذه المرة (الطليعة)- أظن قبل صدور الطليعة المعروفة- لكننا دفعنا ثمن الطباعة سبعة جنيهات على أقساط. وفيها كتبت قصة تهاجم التفرقة العنصرية ضد الملونين فى أمريكا وأسميتها (الأسود).
ونشرت أيضا قصيدة وأفكارا وخواطر ورسم أخى جهاد كاريكاتير فى الغلاف الأخير، هذا علاوة على الأكليشيهات المهملة تحت بئر سلم مجلة روز اليوسف فى مكانها القديم والتى كنت أسرقها فى غفلة متيقنا أنه عمل شريف لأنهم لن يستخدموها ثانية! وكان ستالين قد اقترح أن ننشر مقالا ضد الشيوعية فسألته عن السبب فقال حتى لا يتهمونا بالشيوعية!.
ولم يعجبنى مبرره فأبى وأمى يؤمنان بالاشتراكية (ولم يكن عبدالناصر قد أعلنها!) وكنت قد قرأت وسمعت عنها الكثير، فرفضت نصيحته ونشب بيننا الخلاف فهددت بتقديم استقالتي! وبعد جدل كثير تراجعت قائلا إذا كان لا بد من المقال فليوقعه باسمه لا باسم المجلة، فتراجع هو بدوره.
ولكنى عذرته بعدها لما تذكرت مجيء رجل المباحث بشأن مجلة (الأحرار) والتى لم يشفع لنا أننا وضعنا صورة عبدالناصر مرتين وكتبنا عنه ثلاث مرات!
فى نهاية هذا العام كنت أسير مع أمى فى اتجاه منزلها عندما توقفت وقالت إنها لن تأخذنى لمنزلها اليوم، وأخرجت من حقيبة يدها نشرة من ورقتين تقريبا قالت إنها تصدر عن حزب حدتو الشيوعى السرى وتخبرنى بسرعة بأنها عضوة بهذا الحزب، والسلطة بدأت فى اعتقال أعضائها خاصة من محررى روز اليوسف وأنها أعدت حقيبتها وتنتظر اعتقالها بين أى لحظة وأخري. ولست أذكر الآن مشاعرى تجاه ذلك.
ربما لأنها طلبت منى أن أكون رجلا فلا أهتز أو أحزن وأن أرعى إخوتى وأن أحذر أبى أيضا ليحتاط هو الآخر. لكنى حزنت ولم أقل لإخوتى شيئا وأخذت أشجع نفسى بأن هذا قد لا يحدث. ونقلت لأبى تحذير أمى له كما أوصتنى لكنه ابتسم فى سخرية كعادته بلامبالاة وعدم اهتمام، فقد كان قد توقف تماما عن نشاطه السياسى منذ عام ٥٤ عندما اشترطوا عليه عدم العمل بالسياسة واستكتبوه إقرارا بذلك.
وهكذا أدركت أن الرقابة وصلت أبى وأمى وأنا معهما.