الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

شفيق أحمد علي.. "البهى" الذى لم يرحل عنا

شفيق أحمد علي
شفيق أحمد علي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رحل الأستاذ.. هكذا تلقيت الخبر.. مات شفيق أحمد علي.. وهكذا سمعت الخبر.. لم أحزن وقتها فلم تدمع عيناى بل جالت فى الآفاق تبحث عن صورته البهية، وهو يهز فى داخلى أشياء لم أكن أراها، أشياء تلمسها هو بنظرته الثاقبة وترجمها، وهو يصفنى بالدودة الباحثة عن الرزق، حتى لو كان تحت الصخر، رأيته لأول مرة فى جريدة العربى عام ١٩٩٥ ، وكان وقتها مديرًا للتحرير، وكنت لم أزل صحفيًا صغيرًا يتلمس خطاه، فلم يكن قد استقر فكره كما لم تستقم خطاه، سأل عنى عندما وقع فى يده عن طريق الصدفة موضوع لى لم ينشر، لكن كنت قد غادرت «العربي» إلى مكان آخر، لم أكن أدرك أننى مثلت شيئا للرجل، أو أنه قام بنشر الموضوع، وهو ما لم أعرفه إلا حين جاءنى بشخصه رغم الفارق العمرى بيننا، جاء الأستاذ للتلميذ الذى لم يشرف بلقائه سوى دقائق معدودة، ليس بشخصه فقط لكن عبر سطور خطها رغبة فى نشرها.
كنت أعمل فى جريدة صغيرة اسمها «الخبر»، وفجأة وجدت عملاقًا يقف بباب المكتب يقول موجهًا حديثه إليّ: أنت فاكر أنى مش هاعرف طريقك يعني؟»، انتفضت واقفا كأن ضابطا كبيرا بباب جندى حديث العهد بالجندية، وعلى الجندى أن يضرب له التحية، بادرنى بالسؤال: أنت سبت العربى ليه؟.. سؤال مباشر وجهه لى قبل أن أنطق مرحبا به، فلم أدر ماذا أفعل لكنى أذكر أننى قلت له : يا أستاذى «عربى إيه» تشريفك لى هنا أكبر من أى جرنال، أخذ يلح فقلت له: ظروف خاصة أبعدتنى عن الجرنال، لكنه رد بأدب جم قائلا: أكيد فيه حاجة مش عاوز تقولها لي؟، قمت مسرعا لأنادى عامل البوفيه، محاولا لفت نظره عن إجابة السؤال، حيث تعودت ألا أخوض فى تجربة مضت، تنفيذا لنصائح والدى «رحمة الله عليه».. المهم لاحظت أنه التقط الأمر بطيب خاطر دون تعقيب.
فاجأنى الراحل الكبير بمواقفه، حين قال لى: أنت لا تصلح أن تكون صحفى خبر.. أنا أرى فيك محققا صحفيا، فلا تحيد عن هذا الطريق، ألجمت المفاجأة لسانى فلم أنطق مفضلا الاستماع لتعاليم الأستاذ.. قال لي: لا تفرح بورقة مختومة أتت إليك فتسرع بكتابة محتواها، ثم تغضب لعدم نشرها، اجعلها بداية لتحقيق، ومارس صفات الدود فى بحثه عن الرزق، ابحث فيما ورائها، تحتها وفوقها لتتكون لديك جميع حلقات الموضوع، ثم أضاف: أى تحقيق صحفى يبدأ بمعلومة ربما تكون سماعية، وربما تكون عبر ورقة سربها مظلوم أو مكلوم أو ضائع، أو كان فى بؤرة الفساد فأخرجوه منها، فجاء لينتقم، ولربما يكون وطنيا يريد كشف مواطن فساد، ابحث ثم ابحث حتى تتيقن قبل أن تكتب حرفا، وإياك أن تستمع لمن يأتى بمستندات عن فساد ثم يطلب منك أجرا.. لم يستمر اللقاء سوى ربع ساعة تقريبا، بعدها قام الرجل وانصرف تاركا عقلى وهو ساخن لدرجة الغليان.
تمر السنون ويأتى عام ٢٠٠٦ وكنت أعمل بجريدة الكرامة، وكان قد تغير رئيس تحريرها التنفيذى ليرحل جمال فهمي، ويأتى عبد الحليم قنديل، وكان صديقًا للراحل شفيق أحمد علي، وكنت وقتها قد بدأت حملة «حكومة اتحاد ملاك مصر»، دخلت المقر فإذا بعامل البوفيه يقول لى الدكتور عاوزك، دخلت على رئيس التحرير فإذا بالقامة العالية قولا وفعلا شفيق أحمد على يقف فلم أر غيره بالمكان، وهو يلتقطنى فى أحضانه قائلا: « هكذا يكون صحفى التحقيقات»، فى هذه المرة دمعت عيناى وأنا أقول له: يا أستاذى، الفضل كل الفضل يرجع إلى نصائحك وتعاليمك، التى أضعها حلقة فى أذنى وألتمس منها المدد فى كل وقت أشعر فيه بالضعف، وهو يردد أنا جئت اليوم لك لا لعبد الحليم، ويلتفت لصديقه قائلا: سمعت عنه من يقول شاب غير معروف ومن يقول كبير يكتب باسم مستعار، وكلام كثير لم أرد عليه لأنى أعرف أنه عجوز قدرا.. شاب نشاطا وحيوية، ضحك عبد الحليم قنديل يومها وقال: أنا أول يوم دخلت الجرنال سألت عنه، وعلمت أنهم كانوا يخوفونه مني، فرد الراحل الكريم، «عماد» هذا أعرفه من أكثر من ١٠ سنوات، تنبأت له أن يكون محققا محترما، لكنه فاق ما توقعته له... لم أشعر بهذا الإطراء مثلما شعرت، ولم أقبله من أحد بعد ذلك، لأن الرجل قال كل ما يمكن أن يقال لصحفى يتلمس طريقه حثيثا، خرجت يومها من مكتب الدكتور عبد الحليم قنديل مسرعًا، وقدماى لا تقويان على حملي، لكن الرجل كان كلما بدأت حملة حاضرا فى الكرامة، حتى تعودت أن أنتظره لأرى وقع ما أكتب فى عينين لا تريان سوى الصدق، ولا تكتب سوى ما تراه صادقا.. هكذا تابعته فيما يكتب محاولًا أن أنهل من بحر خبراته بأقصى ما يمكننى من قوة، رغبة فى أن أحقق ولو نذرا يسيرا لما تنبأ به.
ثم تمضى الأيام كل فيما قدر له، أسأل عنه من حين لآخر لكنى لم أجرؤ يوما على تغيير الصورة التى رأيته عليها، للأسف تلك عادة سيئة رسخت داخلي، لم أستطع أن أراه مريضًا.. ليرحل، وهو كما هو فى خاطرى القامة العالية.. قامة المعلم الأستاذ.. والصديق الذى علمنى معنى أن أكون صحفيًا ليتفرد عن كل من تعلمت على يديهم من أساتذتي العظام.
رحم الله شفيق أحمد على أشهر محقق صحفى فى الزمن الجميل.. زمن الأساتذة.. الذى كان أكبر أعداء التطبيع فى مصر.. وكان نموذجًا نادرًا للصحفى الشريف النزيه، الذى كان يعمل إلى آخر أيامه رغم مرضه وإصاباته المتكررة بنزيف فى المخ.