الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من يملأ الفراغ؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نعيب زمــاننا والعيب فينــــــا.. وما لزماننا عيبٌ سوانـــــــا
ونهجو ذا الزمـــانَ بغير ذنبٍ.. ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ.. ويأكلُ بعضنا بعضًا عيانـــا
هذه أبيات من قصيدة للإمام الشافعى رضى الله عنه.. قفزت على ذهنى وأنا أبحث عن تفسير منطقى ومقبول للحالة التي نحن عليها الآن، من تراجع حاد للأخلاق، وقيم العمل ومفاهيم التربية الصحيحة، ومن غياب الخطاب الدينى السمح والوسطى، وانتشار التطرف الذي يولد الإرهاب والقتل بلا مبرر أو سبب، أو لأتفه سبب كما نسمع ونقرأ ونشاهد.
وحتى لا نواجه الحقيقة المرة، نذهب سريعا إلى لعن الزمان والأيام، ونتحدث طويلا عن العرض ونتناسى أو نتغافل عن المرض الذي نعرفه جميعا، والحكاية ببساطة هي قضية الفراغ، أو ترك مساحات شاغرة في حياتنا، سواء كانت شخصية أو جماعية، والمصيبة أو الكارثة أن يحدث ذلك من السلطة التي أقسمت وهى تتولى المسئولية أن تحافظ وترعى مصالح الشعب رعاية كاملة.
فلو أن الدولة (السلطة) لم تترك فراغا في المساجد وتغيب عنها.. ما استطاعت جماعات الظلام وفرق الإسلام السياسي أن تجد موطئ قدم لها في كل هذه المساجد في طول البلاد وعرضها.. حدث ذلك منذ عقود طويلة ومنذ سمح الرئيس السادات بعودة جماعة الإخوان للعمل في المساجد بكل أحجامها الكبيرة والصغيرة والزوايا في القرى والنجوع، وما استطاعت هذه الجماعات أن تسيطر على عقول شبابنا في مراحل متقدمة من العمر ليتحولوا إلى قنابل موقوتة تنفجر في وجه المجتمع عند اللزوم.
ولو أن الدولة (السلطة) لم تترك التعليم لكل من هب ودب ما استطاعت جماعة الإخوان فتح مدارس تحت شعار (مدارس إسلامية) تعلم فيها ما تراه من مناهج وما تقدمه من فكر ورؤية، تعلم جيدا أن حصادها منه سيكون عظيما عندما تسيطر على جيل وأجيال تعلمت أن الولاء ليس للوطن لكنه للجماعة، وأن المواطنة مجرد شعار زائف، وأن المسلم في ماليزيا أقرب للمصرى من جاره المسيحى وابن بلده، وأن الوطن والحدود فكرة من سراب، ومجرد شقة مفروشة يمكن تركها في أي وقت والبحث عن غيرها.
ولو أن الدولة (السلطة) لم تنسحب من المستشفيات ومراكز العلاج والرعاية الصحية ما استطاعت جماعات الشر أن تحتكر الآلاف من المراكز الصحية المرخصة وغير المرخصة، لتقديم الخدمة الصحية للفقراء ومحدودى الدخل، فيدينون بالولاء لها ويتنكرون للدولة التي يعيشون على أرضها، ويصبحون رصيدا احتياطيا لهذه الجماعات يستخدمونه وقت الحاجة في الانتخابات المحلية والبرلمانية، تحت زعم أنهم ناس بتوع ربنا، يساعدون الفقراء والمحتاجين في وقت تنساهم الدولة.
ولو أن الدولة (السلطة) لم تتخل عن دورها في تقديم الفنون الراقية والإنتاج السينمائى والتليفزيونى الجاد والهادف، ما استطاع تجار الفن أن يجدوا ساعة هواء أو شاشة عرض يبثون فيها أو يعرضون عليها هذا المستوى الهابط في كل شيء الذي يسيء للشعب المصرى وللوطن، ويقدم رسائل سيئة وخطرة على شبابنا وأبنائنا، ويكرسون لديهم صور العنف واستخدام القوة بغير حق، ويدمرون بداخلهم قيم المروءة والرجولة والشهامة والوطنية!
عندما نترك مساحة فسوف يحتلها أصحاب مصالح شريرة، وعندما نصنع فراغا فسوف يملأه أصحاب نوايا خبيثة، وقد شاهدنا وسمعنا عن هؤلاء الذين يصعدون المنابر ينفثون السموم في وجوه الحاضرين، وعن هؤلاء الذين خربوا التعليم وخرجوا أجيالا لا تعرف الوطن ولا تهتف باسمه، وعن هؤلاء الذين دمروا الذوق العام للمصريين- إلا من رحم ربى- وأشاعوا فيه الفوضى باسم الحرية، واتخذوا من قانون القوة بديلا عن قوة القانون، عندما نصنع الفراغ فلا نلوم غير أنفسنا، والأمثلة كثيرة، وذكرها وتكرارها يدعوان لليأس، وكما قال الإمام الشافعى: «ويأكل بعضنا بعضا عيانا».