رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يا حبيبى يا ربنا

عن العلاقة الخاصة التى لن يفهمها إلا أصحابها فقط

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عبرت الكلمات أمامى بسرعة، لم ألتفت إليها، أحدهم يكتب على صفحته بـ«فيس بوك» منتقدا اللزمة التي يكررها مصطفى شعبان في مسلسله الجديد «مولانا العاشق».. يا حبيبى يا ربنا، معتبرا ما يفعله الممثل سوء أدب مع الله، فلا يجب أن نتعامل مع المولى سبحانه وتعالى بهذه الطريقة.
لا أعيب على من كتب بالطبع، فهو ينطلق من أرضية إيمانية مخلصة، أدامها الله عليه، لكن ما لا لم يلتفت إليه المصرى المحتج على مخاطبة الله بهذه الطريقة، لا يعرف أن المصريين لهم طقوسهم الخاصة في دينهم، ولهم طريقتهم المميزة في التعامل مع الله، من الصعب أن تؤاخذهم عليها، لأنهم وهم يتحركون في رحابه يطمعون في رحمته، يقنعون أنفسهم أنه أب لكل البشر، والأب لا يمكن أن يغضب من أولاده، وعليه فهو يتجاوز عما يقولونه في حقه.
أعرف أنك لا تحتاج منى دليلا على ما أقوله، بداخلك ما يصدقنى، لأنك تتعامل مع الله بطريقتك الخاصة، تراه من زاوية ذاتية جدا، تسمع عنه في القرآن، وبلسان من يعتقدون أنهم وكلاؤهم في الأرض، تفزع عن الحديث عن جهنمه التي يعدها لمن يخرجون عن طريقه، وتبتسم عندما يحدثونك عن جنته التي أعدها للمتقين، لكنك وقبل أن تنام تضع الله الذي تريده أنت بين عينيك، لا أحد يشاركك فيه، ولا أحد يفرضه عليك.
كان أحد أصدقائى في المدرسة الابتدائية يصرخ: صباح الخير يا ربنا، لم تكن الكلمة تثير غضبنا، بقدر ما كانت تفجر فينا الضحكات، خاصة عندما كان يقول إن: «ربنا صاحبى، بيكلمنى وباكلمه»، وعندما قال يوسف شاهين نفس الكلمة بعد سنوات في برنامج تليفزيونى رمضانى، وأثارت استياء الكثيرين، لم أندهش، بل قدرت في يوسف الذي كان يتحدث بروح طفل، أنه أخذ من الله صديقا مقربا، يشكو له... ويشكو منه.

■ ■ ■
كنت مهتما ولا أزال بموضع الله في حياة المصريين، جذبتنى كلمة العقاد وهو من هو في عمقه وحكمته وتأمله وإطلاعه: «كلما رأيت جمالا في الكون قلت لا يستحق هذا الجمال إلا إله، وكلما رأيت نقصا في الكون قلت لا يستطيع أن يكمل هذا النقص إلا إله».. الله هنا عند العقاد مطلق، فلا جمال إلا من صنعه، ولا كمال إلا من يديه وحده.
مصطفى محمود في كتابه «الله والإنسان» وهو الكتاب الذي تمت مصادرته، ولا يزال كتابا ملعونا عند كثيرين، قال عن الله: «إن الله عند جدى يتمثل في شخص طيب رحيم غفور تواب، يداوى الروماتيزم ويقوى المفاصل، وعند أمى مأذون يجمع رءوس بناتها على رءوس عرسان أغنياء في الحلال، وهو عند الأطفال عروس المولد، وهو عند أينشتين معادلة رياضية وقانون تخضع له الأشياء بالضرورة، وهو عند عاشق مثلى حب، وهو عند مشايخ الصوفية وزير أوقاف يوزع الكساء، وهو عند الملحد موضوع دراسة، وعند المؤمن موضوع عبادة، ودائما شىء حتى عند الذي ينكره».
يمكن أن نفهم من كلام مصطفى محمود أشياء كثيرة، منها أنه يثق تماما في وجود الإله، فهو موجود حتى عند الذين ينكرونه، ومن زاوية ثانية يمكن أن ترى أن الله ليس واحدا عند الجميع، فهو احتياج، نعبر عنه بما نحتاجه وليس بحقيقته، وهو ما يفتح بابا للبعض ليقولوا بأن الله ليس موجودا من الأساس، وأعتقد أن هذا ما كان مصطفى محمود يسعى إلى التأكيد عليه في كتابه الذي لا يزال ملعونا حتى الآن.
نوال السعداوى لم تنكر وجود الله، لكنها حملته بغضب مسئولية آلام وأوجاع كل النساء.
تقول نوال: لا أدرى ماذا حدث لى وأنا أقفز، أحسست برجفة عنيفة تسرى في جسدى ودوار في رأسى، ورأيت شيئا أحمر اللون، ما هذا؟ انخلع قلبى من الهلع وانسحبت من اللعب، وصعدت إلى البيت وأغلقت على نفسى باب الحمام لأبحث في الخفاء سر هذا الحادث الخطير، ولم أفهم شيئا، وظننت أن الأمر مرض مفاجئ ألم بى، وذهبت إلى أمى أسألها في ذعر، ورأيت أمى تضحك في سعادة، وتعجبت كيف تقابل أمى هذا المرض الفظيع بتلك الإبتسامة العريضة، ورأت أمى دهشتى وحيرتى فأخذتنى من يدى إلى غرفتى، حيث قصت على قصة النساء الدامية.
لم تأخذ نوال السعداوى ما حدث معها على أنه أمر طبيعى، لكن رسخ في ذهنها من ذلك اليوم أن المرأة مظلومة دائما، وصكت عبارة عنيفة في وقعها على الجميع، لابد أنك ستندهش عندما تقرأها، فهى تقول تعليقا على حداثى الختان والعادة الشهرية: «إن الله لابد وإنه يكره البنات فوصمهن جميعا بهذا العار، وشعرت أن الله تحيز للصبيان في كل شىء».
■ ■ ■
في دفاترى مواقف وتنظيرات وكلمات كثيرة لمثقفين وفلاسفة تعاملوا مع الله تعاملا خاصا جدا، لكن اهتمامى الأكبر كان بما يعنيه الله عند المصريين البسطاء، هؤلاء الذين ينسجون علاقتهم به على هواهم، دون التقيد بأديان ولا أوامر ولا نواهى.
وكنت وضعت يدى على بعض ملامح التدين الشعبى، وكان هذا بعضا مما وجدت.
تربط بين المصريين وربهم علاقة تقوم على أن الله رحمته واسعة، بنص القرآن الكريم: «ورحمتى وسعت كل شىء».. ولأنهم يثقون تماما في كل ما جاء في القرآن، فهم يعبرون عن رحمة الله بطريقتهم الخاصة، ومؤكد أنك قلت أو سمعت:
- ربنا لو ما رحمناش هيرحم مين؟
- إحنا لو ما دخلناش الجنة مين إللى هيدخل؟
- يعنى ربنا هيسيب كل الكفار دول وهيدخلنا إحنا النار؟
- الأغنيا لهم الدنيا وإحنا لنا الآخرة.
- مش معقول ربنا يجمع علينا عذابين واحد في الدنيا وواحد في الآخرة.
يمكن أن تتعامل مع هذه العبارات على أنها لا تعنى إلا أن هناك تفريطا من نوع ما في سلوك المصريين، يشعرون به ولا يقدرون على الهروب منه، ولا يجد المسلم العادى أمامه للهروب من مسئولية هذا التقصير الذي يمارسه في الغالب بشكل روتينى إلا أن يوسع بنفسه من دائرة رحمة الله التي لابد أنها سوف تسعه.
هذه المساحة التي يمكن أن تلخصها بين ثنائية «التقصير – الطمع في رحمة الله».. هي التي جعلت المصريين يعلون من أسماء الله الحسنى التي تحمل صفات الرحمة والمغفرة والستر، ويفضلون في أسماء أولادهم عبدالرحمن وعبدالرحيم وعبدالغفار وعبدالتواب، دلالة على طلب الرحمة والعفو والمغفرة، والوقوف على باب التوبة دائما، وعبدالموجود دلالة على أنه سندهم والواقف خلفهم يحميهم مما يراد بهم، وعبد الستار دلالة على أنه يسترهم ولا يفضحهم مهما كانت خطاياهم، ورغم أن هناك من الباحثين من يستبعد اسم الستار من بين أسماء الله الحسنى فهو ليس موجودا في القائمة الرسمية الشرعية المعترف بها، فإن المصريين لا يعترفون بذلك لأن الاسم إن لم يكن موجودا بين قائمة الأسماء التي تم الاتفاق عليها، فإنه موجود بصفته وسمته وتجليه عليهم في حياتهم اليومية فلماذا يستبعدونه وهو يظللهم بتجليات هذا الاسم، فمؤكد أنك قلت مرة: «إحنا عايشين بستر ربنا»، وإن لم تكن قلتها، فمؤكد أن هناك من يعيشون إلى جوارك قالوها.
ليس معنى هذا أن المصريين لا يقتربون من أسماء الله الحسنى التي تعلى من معانى القوة والتكبر والتجبر والانتقام، إنهم يعتصمون بها لكنهم يفعلون ذلك من باب استعداء الله على من يظلمونهم ويجورون عليهم، وهؤلاء كثيرون يعجز المصريون عن التعامل معهم أو التغلب عليهم، ولا يمكن أن يقفز في مخيلتهم أن الله يمكن أن يكون قاهرا لهم أو متكبرا عليهم ويترك هؤلاء الظالمين الكبار، فإنهم بالنسبة له أضعف كثيرا من أن يضعهم ندا لقوته وانتقامه، ثم ما الذي يجعل الله ينتقم منهم وهو قادر على إفنائهم بقدرته التي تبدأ بكن وتنتهى بيكون، ويستندون في ذلك على الفكرة الإسلامية الراقية التي تقول إن الله سيحاسب الناس يوم القيامة برحمته ولن يحاسبهم بعدله، فلو حاسبهم بعدله سيعطيهم حقهم ويحصل منهم على حقه، وساعتها لن يدخل أحد منهم الجنة.
هذا التفريق الذي يتعامل به المصريون مع أسماء الله الحسنى جعلهم ينظرون إلى الله بحالة يمكن التعامل معها على أنها شكل من أشكال العشم، والعشم معنى ينقذ المصريون في أوقات الضيق والعسر، فأنت تذهب إلى من ليس لك عنده حق ومع ذلك تطالبه بأن يعطيك وبزيادة، وإذا سألك عن المبرر الذي يدفعه لأن يعطيك، ترفع في وجهه كلمة مصرية صرفة وهى: «أنا عشمان فيك».
هذه الكلمة تذيب الكثير من الحواجز ولا يتردد المصريين في استخدامها بما لها من دلالات عديدة مع الله، فاللص المصرى يخطط لجريمته وهو يدعو الله أن يستره ويذهب لتنفيذها، ويطلب من الله أن يعينه عليها، وإذا حدث وندم عليها فإنه يفعل ذلك وفى نيته أن يعود مرة ثانية وهو على يقين أن الله سيقبله في كل مرة دون أن يرده أو يصده أو يغلق الباب في وجهه.
هذا العشم مع الله توازيه حالة أخرى يمكن أن نطلق عليها حالة الدلال المصرية على الله، فالذنب يجاور الطاعة لا يكادان يفترقان، وإذا كانت هناك فكرة أن التوبة لابد أن تكون نصوحا ومن شروطها أن يقلع صاحبها عن الذنوب فلا يعود إليها مرة ثانية حتى يقبل الله منه توبته، فإن هناك فكرة أخرى تقوم على أن الله يحب عبده الذي يخطئ ثم يعود إليه، وفى الأدبيات الإسلامية أن فرحة الله بعبده العاصى الذي يعود إليه أكبر وأشد من فرحة الأم بوليدها الذي ضاع منها ثم عاد إليها مرة ثانية، حالة الدلال هذه لم تدفع المصريين إلى الخطأ فقط لكنها جعلت المصريين ينسجون علاقة خاصة مع الله، ولا أستطيع أن أنسى البائع المتجول الذي اخترق صوته سمعى ذات مرة وأنا طفل صغير وهو يرفع رأسه للسماء ويقول: يارب.. إحنا خارجين متوكلين عليك وحق النبى عندك ما ترجعنى مكسوف.
هذا الرجل في قرارة نفسه يؤمن بالله، ويؤمن أن له كل صفات الجلال والكمال، وإذا كان هناك من يمكن أن يعتبر هذا الكلام تجاوزا من البائع في حق الله فإنه نفسه سيرفض أنه تجاوز، فهو يتحدث مع الله الذي خلقه، وليس لأحد أن يتدخل بينهما أو يعترض طريقه إليه.
إن البسطاء المصريين لا يعرفون عن الله كثيرا لكنهم يدركون أنه معهم ولهم ولا يغضب منهم لأنه لا يريد منهم شئيا، تجاوزت هذه الحالة إلى إنزال المصريين الذات الإلهية إلى منزل التنكيت والنيل منها وكتاب النكتة الدينية حافل بنماذج وأمثلة كثيرة يصعب النطق بها فضلا عن كتابتها بما يعنى التسجيل والتوثيق لها، ورغم بشاعة هذا التعامل مع الله إلا أنك عندما تبحث عن دوافعه ومبرراته عند المصريين فلن تجد لذلك سببا يتعلق بالتعمد أو الرغبة في الإساءة، فقط يفعلون ذلك لأن الله بالنسبة لهم ليس إلها منتقما جبارا يبطش بمن يعارضه، ولكنه صديق ودود وحنون ولا يتخلى عن أصدقائه حتى لو تخلوا هم عنه، ولذلك فهم يتحدثون إليه ليس حديث العبد الخاضع لسيده، بل حديث الصديق لصديقه فيه بعض من العتاب واللوم أحيانا وعلى قدر الحب يأتى العتاب ولذلك يمكن أن تسمع مثل هذه العبارات، أو يمكن أن تكون قلتها أنت أكثر من مرة.
- يارب أنا عملت إيه عشان كل ده.
- يارب يرضيك إللى بيحصل ده.
- ماكنش العشم يارب.
■ ■ ■
الكلمة الأخيرة تلخص أكثر حالة التوحد التي لا تنتهى بين المصريين وبين الله، فهم يدخلونه إلى حياتهم على أنه منهم، عندما يجرى عليهم – رغم أنه صاحب الأقدار كلها – ما لا يعجبهم، يتوجهون إليه باللوم، وكأنه ما يجب أن يفعل ما فعله، رغم أن الأدبيات الدينية تضع بين يدى الله أنه «لا يسأل عما يفعل وهم يسألون»... لكن المصرى البسيط الذي يخرج من بيته وهو لا يبتغى إلا وجه الله، يرى أنه من حقه أن يعاتبه ويلومه ويغضب منه أيضا.
لكل هذا ولغيره كثير جدا لا يمكننا الإفصاح عنه هنا، لم يكن غريبا أو مفزعا أو مدهشا بالنسبة لى ما يردده مصطفى شعبان في مسلسله «مولانا العاشق»: «يا حبيبى يا ربنا»، فهو تعبير بسيط جدا عن رغبة المصريين في أن يكون الله حبيبهم وحدهم، لا يعمل إلا من أجلهم، ولا ينصر غيرهم.
قد يكون أحمد عبد الفتاح مؤلف «مولانا العاشق» قد التقط الكلمة من على لسان أحد المارة في الشارع، فمثل هذه الكلمات ينطقها المصريون بعفوية شديدة، يسوقونها بين يديه طلبا للعون والمدد، فهم ورغم ما يظهرونه من شقاوة، إلا أنهم واثقون أنهم بدون الله لا شىء على الإطلاق، وقد يكون مصطفى شعبان قصد منها أن تكون مجرد كلمة مميزة له بين شخصيات مسلسلات رمضان الكثيرة، لا أكثر ولا أقل.
لكن يبدو أن هناك ما هو أكثر، ففى مسلسله «مزاج الخير» الذي قدمه مصطفى شعبان قبل عامين، كان يستخدم كلمة لها دلالة أكثر عمقا، من كلمته «حبيبى يا ربنا» وهى «هاتها جمايل يارب»، وأقول إنها أكثر وأعمق دلالة على العلاقة الخاصة بين المصريين وربهم، لأنها ببساطة شديدة تشير إلى أن المصريين يعرفون في قرارة أنفسهم أنهم لا يستحقون على الإطلاق أن يمن الله عليهم بشىء، لا يستحقون أن يقف بجوارهم، أن ينعم عليهم أو يحميهم أو يسترهم، ولذلك فهم يطلبون من الله أن يأتيهم بما يريد جمايل، لأنه لو عاملهم بما يستحقون، فلن يحصلوا على أي شىء على الإطلاق.
العلاقة بين المصريين وربهم بسيطة بقدر ما هي معقدة، يمكن أن نكون قد فهمنا بعضا من ملامحها، لكنى أعتقد أننا لن نستطيع أن نفهمها على حقيقتها أبدا، لأن كل منا عنده الله الذي يؤمن به ويناجيه في صلواته وخلواته، وكل منا يرضى عن ربه، قبل أن يطلب من ربه أن يكون راضيا، هذه ببساطة المعادلة التي لا يستطيع من يتحدثون بالوكالة عن الله أن يستوعبونها، فمن المهم جدا أن ترضى أنت عن الله قبل أن يرضى الله عنك... أما كيف يتحقق هذه؟ فهذه قصة طويلة جدا.