الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

أبو يزيد البُسطامي.. تقعقعت عظامه لذكر الله (أعلام الصوفية 5 /30)

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"هذا فرحي بك وأنا أخافك، فكيف فرحي بك إذا أمنتك؟ ليس العجب من حبي لك وأنا عبد فقير، إنما العجب من حبك لي، وأنت ملك قدير".
هو أبو يزيد طيفور ابن عيسى البُسطامي، كان جده زرادشتيًا من أهل بُسطام وأسلم، وكان اسمه الفارسي قبل ذلك هو بايزيد، وعرف باسم طيفور؛ ويُعد من إعلام التصوف في القرن الثالث الهجري، وقد روى عن إسماعيل السدي وجعفر الصادق ؛ ومن أبرز تلاميذه أبو منصورالحلاج.
"ما زلت أسوق نفسي إلى لله وهى تبكي، حتى سقتها وهى تضحك".
اشتهر البُسطامي بالشطح في العديد من الأقوال والأفعال كما يروي الكثير ممن عاصروه؛ وكانت أشهر قصصه مع راهب دير سمعان والتي رواها بنفسه قائلًا "كنت يومًا في بعض سياحتي متلذذًا بخلوتي وراحتي، مستغرقًا بفكري، مستأنسًا بذكري؛ إذ نوديت في سري: ياأبا يزيد.. امض إلى دير سمعان واحضر مع الرهبان في يوم عيدهم والقربان فلنا في ذلك نبأ وشان، فاستعذت بالله من هذا الخاطر وقلت لست أخاطر.
فلما كان الليل أتاني الهاتف في المنام وأعاد على ذلك الكلام فانتبهت وأنا أرتجف وأرتعد وعندي من هذا الكلام مايقيم المقعد، فنوديت في سري:لا بأس عليك أنت عندنا من الأولياء الأخيار ومكتوب في ديوان الأبرار ولكن إلبس زي الرهبان واشدد من أجلنا الزنار وماعليك في ذلك جناح ولا إنكار؛ فقمت من باكر وبادرت إلى امتثال الأوامر ولبست زي الرهبان وحضرت في دير سمعان، فلما حضر كبيرهم واجتمعوا وأنصتوا إليه ليسمعوا ارتج عليه المقام فلم يطق الكلام كأن في فمه لجام، فقال له القسيسون والرهبان: مالذي يمنعك من الكلام أيها الربان؟ فنحن بقولك نهتدي وبعلمك نقتدي. فقال:ما يمنعني أن أتكلم وأبتدي، الآن بينكم رجل محمدي وقد جاء لدينكم ممتحنًا وعليكم معتدي. فقالوا: أرنا إياه نقتله الآن، فقال: لاتقتلوه إلا بدليل وبرهان فإني أريد أن أمتحنه وأسأله عن مسائل في علم الأديان، فإن أجاب عنها وأبان تركناه وإن عجز عن تفسيرها قتلناه وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. فقالوا له:أفعل ماتريد فنحن ما حضرنا إلا لنستفيد"، فقام كبيرهم على قدميه ونادي "يا محمدي.. بحق محمد عليك إلا ما نهضت قائمًا على قدميك لتنظر العيون إليك"، فقام أبو يزيد ولسانه لايفتر عن التقديس والتمجيد، فقال له البطرك "يا محمدي أريد أن أسألك عن مسائل، فإن أجبت عنها وفسرتها اتبعناك وإن عجزت عن تفسيرها قتلناك، فقال أبو يزيد: سل عما تريد من المنقول والمعقول والله شاهد على ما تقول.
الراهب: أخبرني عن واحد لا ثاني له؟ 
أبو يزيد: هو الله الواحد القهار.
الراهب: وعن اثنين لا ثالث لهما؟ 
أبو يزيد: هما الليل والنهار لقوله تعالى "وجعلنا الليل والنهار آيتين".
الراهب: وعن ثلاثة لا رابع لهم؟ 
أبو يزيد: هم العرش والكرسي والقلم.
الراهب: وعن أربعة لا خامس لهم؟ 
أبو يزيد: هم الكتب المنزلة: التوارة الإنجيل الزبور الفرقان.
الراهب: وعن خمسة لا سادس لهم؟ 
أبو يزيد: هم الصلوات الخمس المفروضة على كل مسلم ومسلمة.
الراهب: وعن ستة لا سابع لهم؟ 
أبويزيد: هم الستة أيام التي ذكرها الله في قوله تعالى "ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام".
الراهب: وعن سبعة لاثامن لهم؟ 
أبو يزيد: هم السبع سموات لقوله تعالى" سبع سموات طباقًا".
الراهب: وعن ثمانية لا تاسع لهم؟ 
أبو يزيد: هم حملة العرش لقوله تعالى"ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية".
وظل الرهبان يسألونه ويجيب حتى وصل إلى السؤال الأخير" أخبرنا أين يكون الليل إذا جاء النهار؟، وأين يكون النهار إذا جاء الليل؟ أبو يزيد: إنهما يكونان في غامض علم الله تعالى؛ ثم قال البُسطامي: هل بقي عندكم أسئلة؟، فأجابه بالنفي، فسأله "أخبرني أنت عن مفتاح السموات ومفتاح الجنة؟"، فسكت كبيرهم، فقال له الرهبان "سألته عن مسائل كثيرة فأجاب عنها جميعها وقد سألك عن مسألة واحدة فعجزت عن جوابها"، فرد بقوله "ما عجزت.. ولكنني أخاف أن أجيبه عن سؤاله فلا توافقوني"، فقالوا "بل نوافقك، إذ أنت كبيرنا، ومهما قلت لنا سمعناه ووافقناك عليه ".
وذكر البُسطامي في روايته أن "كبيرهم قال: مفتاح السموات والجنة قول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلما سمعوا ذلك منه أسلموا عن آخرهم، وخربوا الدير وبنوه مسجدًا وقطعوا زنانيرهم، وهناك نودي أبو يزيد في سره يا أبا يزيد أنت شددت من أجلنا زنارا وقطعنا من أجلك خمسمائة زنار".
ونظرًا إلى هذه الشطحات المنسوبة للبسطامى فإن كثيرًا من العلماء خطأه وجعل ذلك من أكبر البدع، وأنها تدل على اعتقاد فاسد كأمن في القلب؛ لذلك كان أبوحامد الغزالى لا يصحح هذه الشطحات، ويرى أنها فهمت خطأ، ولذا يقول في كتابه "إحياء علوم الدين": وأما أبويزيد البُسطامي رحمه الله فلا يصح عنه ما يحكى وإن سمع ذلك منه فلعله كان يحكيه عن الله عز وجل في كلام يردده في نفسه، كما لو سمع وهو يقول: "إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى"، فإنه ما كان ينبغى أن يفهم منه ذلك إلا على سبيل الحكاية.
"عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئًا أشد علىًّ من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لتعبت، واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد".
وثمة من يقول إن ما ورد بشأن البُسطامي في كتاب "لطائف المنن" المنسوب لابن عطاء السكندري، هو كلام مدسوس عليه. فالبسطامي لا يمُكن أن يقول: "خضت بحرًا وقفت الأنبياء بساحله"، فهذا كلام ظاهر البطلان فيه رفع لمقام أبى يزيد فوق مقام الأنبياء؛ كذلك لا يمكنه أن يشطح ويقول: "سبحاني ما أعظم شاني" أو يقول: "أنا ‏الحق"، فالمعروف عنه أنه كان من المتمسكين بآداب السنة النبوية، حالًا وقولًا وفعلًا؛ وهناك واقعة تعدد رواتها تُبرهن ذلك، فقد كان في زمن البُسطامي رجل مشهور بالورع والزهد، فقال يومًا لأصحابه: قوموا بنا ننظر إلى الرجل الذي شهر نفسه بالولاية فذهبوا معه، فلما خرج الرجل من منزله ودخل مسجده تفل نحو القبلة فقال لهم: قوموا بنا ننصرف من غير أن نسلم فإن هذا الرجل ليس بمأمون على أدب من آداب الشريعة التي أدب بها رسول الله، فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه من مقامات الأولياء الصديقين.‏
"من عرف الله بُهت، ولم يتفرغ إلى الكلام.. من عرف الله فإنه يزهد في كل شئ يشغله عنه".
وقد سئل البُسطامي ما علامة العارف؟ فقال "إن لا يفتر من ذكره، ولا يمل من حقه، ولا يستأنس بغيره"؛ ويروى العباس بن حمزة أنه صلى خلف أبى يزيد البُسطامي الظهر، فلما أراد أن يرفع يديه ليكبر لم يقدر إجلالًا لاسم الله "وارتعدت فرائصه حتى كنت أسمع تقعقع عظامه، فهالنى ذلك".
مات أبو يزيد البُسطامي عن عُمر يُناهز ثلاث وسبعين سنة، ويقال إنه دفن في بُسطام، لكن بات له أربعون مقامًا في بلاد شتى.