الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

بالصور والفيديو.. يوم ساخن وسط "زبالة المصريين".. محرر "البوابة نيوز" يرتدي ملابس عامل نظافة ويرصد المعاناة وسط روائح كريهة ونظرات الاستعلاء

محرر البوابة نيوز
محرر البوابة نيوز في الشارع
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تكن أزمة وزير العدل "صابر محفوظ" حول تصريحاته عن أبناء عامل النظافة هي سبب خوضي هذه التجربة.. لكني بدأت القصة في شم النسيم الماضي حين صادفني "عمر" أحد عمال النظافة وقتها في شارع "طلعت حرب" وتحدثنا سويا عن طبيعة عمله في مثل هذا اليوم المرهق.. وأثناء حديثه معي عن تعامل الناس في الشارع معه، فجأة وجدت هدوءه يتحول لصوت عال وشعور بالانكسار وأمسك من سلته إحدى زجاجات البيبسي وألقاها في الأرض وهو يقول: يعنى يا أستاذ لما اكون أنا واقف ومعايا السلة أهى ويجي عيل قد ولادى يرمى القزازة كده في الشارع، وهو شايفنى واقف، وطبعا أنا لازم أوطى أجيبها علشان ده شغلى، يبقى أنا المفروض أحس بإيه؟"، بحركات تعبيرية بسيطه استطاع أن يشرح مدى المعاناة التي يعيشها، وأنا كصحفي تعاطفت مع ما قاله لكن لم أشعر بنفس شعوره.


أما الموقف الثانى الذي شجعنى على خوض التجربة، هو ذلك العامل الذي لا أعرف اسمه، تقابلنا سويا في حى السيده زينب، قبل المولد بيوم، وقتها كان قد تم تكليفي في موقع "البوابة نيوز" بالتحدث مع عمال النظافة حول ما قاله وزير العدل السابق عن أبناء "عمال النظافة" وعدم أحقيتهم في الالتحاق بمؤسسة القضاء، تلك التصريحات التي أودت بصاحبها للهلاك ولم يتغير منها حال من كانت تقصدهم وكأن شيئا لم يحدث، رفض تماما هذا الشخص الحديث خوفا من أي بطش قد يحدث له من قبل الوزارة، كان رجل كبير في السن وقال لى "اأنا يبنى مش هاقولك حاجة جديدة أنا بقالى شهرين وهاطلع على المعاش انا مش هاعرف اتكلم ولا عندى حاجه نقولها ما إلى حاصل هايفضل يحصل"، حاولت معه الحديث لكنه رفض تماما وبعد حديث طويل عن طبيعة ما يعيشه أنهى الحديث قائلا": أنا باشتغل علشان أعلم ولادى وياريت الناس تفهم كدة وربنا يسترها علينا كلنا". 


كان عمر وذلك الشخص الذي لم أعرف اسمه هم السبب، في أن أبدأ جديا في خوض التجربة خصوصا أنني دائما ما أرى "عمر" في وسط البلد وهو يقوم بتنظيف الشارع الذي لا يخلو أبدا من أكوام القمامة. 
تحدثت مع المسئولين بمحافظة الجيزة في أننى أرغب بالقيام بهذه التجربة وبالفعل تمت الموافقة على طلبى وتسلمت منهم الزى لأبدأ في العمل فورا، في النصف ساعة الأولى لم أستطع أن أتفاعل مع الموقف، وكنت لا أزال مصرًا على أننى صحفى أقوم بتجربة ما من أجل نجاحى في العمل لا من أجل أن أشعر بما يشعر به عمال النظافة، الذين تواجدوا حولى، كنت أمسك أدواتي باشمئزاز رغم أنها كانت جديدة ولم يتم استعمالها ولو مرة واحدة، كان بينى وبين هؤلاء العمال حاجز كبير بنيته أنا بنظرتى لهم التي كانت من أعلى حيث أننى صحفى، وبنوها هم من خلال إدراكهم أن من بينهم هو صحفى يقوم بتصوير فيلم يستغلهم فيه كما يفعل الكثير ولكن لا يستطيع أن يعترض أحد لأننى صحفى مسنود من المسئولين وأملك تصريحا بذلك. 


أثناء العمل الطبيعي أننا نستأذن من نقوم بتصويرهم لكن هذه المرة لم نستأذن أحد ولم يستطع أحد أن يرفض أن يخرج على المشاهدين بهذا المنظر الذي يراه المجتمع غير لائق، كنا نقف في شارع التحرير بالدقى نعمل هناك حيث كنت أقوم بكنس الشارع معهم وجمع القمامة التي يلقيها المواطنين في منتصف الطريق وعلى جانبيه رغم وجود سلات القمامة على الأعمدة، ثم بدأنا بجمعها في عدد من الأشولة الكبيرة في إنتظار قدوم سيارة النقل الكبيرة لنقلها، أثناء ذلك قال لنا أحد المارة حين رأى أصدقائي يقومون بتصويري أثناء العمل لم يكن يعلم أننى صحفى فقد ظن أن جميعنا عمال نظافه وهم يقوموا بتصويرنا أثناء العمل فقال لهم " انتو بتصوروهم وهما بيشتغلوا طب تعالوا جوه شوية وانا اوريكو اكوام الزباله إلى مش بتتشال " للحظة شعرت باننى في حاجه كبيرة لنهره بشدة وكنت أرغب في أن أرد قائلا " وهى اكوام الزباله دى مين إلى رماها في الشارع غيرك انت والى زيك " كنت بدأت أشعر بالتعب ولم أطيق أن أكمل ما بدأته من شدة ما وجدته داخل أكوام القمامة.. لحظات وأتت سيارة النقل الكبيرة وصعدت فوقها وحدث ما لم أكن اعرفه أو أتوقعه فأنا كنت على دراية اننا سنضع الأشولة فوق السيارة جنبا إلى جنب وتنتهى القصة ولم أكن أعلم أننا سنقوم بتفريغ تلك الأشولة داخل السياره والضغط على ما يخرج منها بأرجلنا لتسويته ومن ثم نعيد الأشولة فارغه مرة أخرى لمن هم في الشارع لتعبئتها من جديد " وبدأت المعاناه الكبرى " كان كل شوال منها يحمل بداخله كل ما لذ وطاب من الحشرات الزاحفه والطائرة وكنت مجبر أن اضغط مع من يرافقنى داخل السياره على تلك القمامة لمساعدته ولم يكن يدرى أننى صحفى وظن هو الأخر أننى موظف جديد ومن يقوموا بالتصوير هم الصحفيين، بعد أن انتهينا من تفريغ كل تلك الأشولة بدأنا في الضغط بشده على تلك الأكوام لتسويتها وأغلقنا السياره بعد أن خرجت أنا منها ورحلوا وأخذت أنا أحد العربات الصغيرة وبدأت في التجول في الشارع وبجانب الرصيف المتواجد في المنتصف لأجمع ما يلقية المواطنين أثناء سيرهم، في تلك الأثناء بدأت أتحرر من حقيقة عملى كصحفى واتفاعل مع من حولى وكان السبب ذاك السؤال الذي بدر على ذهنى فجأه " ماذا لو لاقدر الله حدث أي أمر مفاجأ وتركت عملى واضطررت أن أمتهن مهنة عامل نظافة لكسب الرزق بدلا من السير في أحد الطرق الحرام؟ وما الذي أراه الآن عيبا في ما أقوم به الآن ؟". 



انتقلنا فيما بعد بالقرب من محطة مترو الدقى وبدأت في تفريغ سلات القمامة المتواجدة بعمدان النور بمنتصف الطرق التي كانت لا تملك من القمامة ربع ما يملكه الشارع ولست أدرى ما الذي يجعل المواطنين في إلقاء زبالتهم في الطريق ما دامت تلك السلال موجودة، بدأت بالفعل في تفريغها والتقاط كل ما يقابلني في الطريق ومن ثم بدأنا بجمعها في جوال لتأتى سيارة نقل أخرى ولكن هذه المرة لم أصعد، بل كنت مع من يقوموا برفع الجوال ليأخذه من هم فوق العربة كنت أظن أنها أسهل من التواجد فوق العربية ولكن لم أكن أعى مدى ثقل الجوال، وكيف إذا ما تم خطأ ما صغير سينقلب الجوال على كل من تحته بما فيه من "زباله تخمرت لأيام عديدة " وهو ما حدث بصورة جزئية حيث انقلب جزء من أحد الأجولة بسبب رفعه بصورة خاطئة أدت إلى ميلة وفجأه وجدت نفسي أستحم ببعض الزبالة التي قمت بجمعها. 


شعرت بالتعب الشديد رغم أننى لم أستمر أكثر من ساعة، ومن حرارة الجو كنت ألهث على نقطة مياه واحده نظرت حولى ولكن لم أجد أي منفذ للمياه، فسارعت باتجاه أحد الأكشاك وقمت بشراء زجاجة مياه معدنية صغيرة، حينها نظر لى البائع باستغراب فكيف لعامل نظافة أن يشترى مياه معدنية؟! وهو نفس السؤال الذي سألته لنفسي هل كلما أراد عامل النظافة أن يروى عطشه سيفعل مثلما فعلت؟ فزجاجة المياه الصغيرة بـ2.5 جنيه في حسبتي أنا لا شيء، لكن في حسبته هو وبالنسبة لراتبه هو جزء كبير من دخل البيت فمن الأفضل أن يبقى على عطشه لحين توفر مصدر للماء مجانى. 


ذاك المجهود الذي عشته ولمدة ساعتين، أكبر بكثير من الراتب الضئيل الذي يتقاضاه عامل النظافة الذي لا يسمن ولا يغنى من جوع، نظرات الناس في الشارع على أنه شخص دون المستوى جعلتنى أعى تماما مقولة "اللى مايعرفش يقول عدس" في الصباح تسلمت بدلة جديدة لم يمر عليها أكثر من ربع ساعة وبدأت تسود من هول وقذارة ما احتكت به، يدى وكل ما كان مكشوفا من جسدى بدأ يتلون باللون الأسود وبدأت أتساءل: "إذا كانت ساعة من العمل أوصلتنى لتلك الدرجة، فكيف لمن هم يعيشون يوميا وسط هذا الكم من الجهد والتعب ؟!". 


في النهاية وبعد لحظات من الإستمتاع معهم والضحك وتبادل أطراف الحديث عن حقيقة تواجدى بينهم وهل هو تليفزيون أو صحافه سألنى أحدهم قائلا " هاتكتب عننا إيه بقى بعد ما شوفت " أخبرته بأننى سأحكى ما حدث بالتفصيل، ودعتهم وعدت مرة أخرى لمقر عملى لمحاولة تنظيف نفسي مما كنت وبعد نحو ساعتين هممت على الرحيل إلى المنزل وكان من الطبيعي أن أعاود السير مرة أخرى من شارع التحرير لأفجأ بامتلائه مرة أخرى بأكياس القمامة الثقيلة وكأن شيئا لم يكن، نظرت للعمال الذين كانوا من حولى في الصباح وضحكت وقال لى أحدهم " شوفت بعينك الشغل مابيخلصش ". 


ولعل من المفارقات الطريفة، أننى وأثناء سيري كان بيدى شيء ما آكله حين انتهيت منه هممت وبحركة لا إرادية أن ألقية في الشارع، كما أفعل كل يوم، ولكن هذه المرة تراجعت سريعا حينما تذكرت ما كنت فيه في الصباح، وظللت أمسك بما في يديّ إلى أن رأيت سلة وقمت بإلقاء ما لدى فيها، ليظل السؤال: "هل يحتاج الشعب بأكمله أن يخوض نفس التجربة ليتوقف عن إلقاء قمامته على الطريق؟ وأن يشعر بحقيقة عامل النظافة الذي ينظر له معظمنا بنظرة الدونية والاستحقار؟ أم تجربة واحدة بالصوت والصورة تكفي؟".