الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

لأول مرة.. الأغنيات "الممنوعة والسرية" في دفاتر عبدالرحمن الأبنودي

الأوراق الخاصة لـ"الخال"

عبدالرحمن الأبنودي
عبدالرحمن الأبنودي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

أول أغنية ممنوعة عن «الصيف الكافر» في الريف

«الفلاح» اختفت من التليفزيون بعد مظاهرات الطلبة ضد «عبدالناصر»

محمد حمام «المطرب السجين» تسبب في منع ٣٠ أغنية لـ«حارس الهلالية»

الحديث عن« آلام الناس» السبب الرئيسى للمنع

«جاى م البلاد البعيدة»

لا زاد ولا ميّه..

وغربتى صاحبتى

بتحوم حواليّا

وانتى تقوليلى.. بحبّك

بتحبّى إيه فيا..

وده حب إيه ده

اللى من غير.. أي حرية؟!

هل كان الأبنودى وهو ابن السعبين سنة يكتب نفسه أم يكتب عن «يونس» الذي أحبته عزيزة ابنة سلطان تونس، فسجنته حتى لا تطاله يد القادرين؟ عمن كان يكتب الرجل.. بأريحية ستقول: «قطعا يونس».. لأنه مش ممكن واحد زى الأبنودى يشعر بالغربة أو المنع أو الضيق.. كيف لرجل البعض يراه شاعر السلطة وحبيبها أن يشكو من حبس حريته.. المفاجأة أن الأبنودى كان يكتب نفسه.. والمفاجأة الأكبر أن ذلك الرجل الذي حفر لنفسه في كل منزل مصرى - وقد لا أكون متجاوزا إن قلت وفى منازل العرب أيضا- مكانا، حتى صارت كل البيوت منازله.. كيف لمثله أن تُحبس حريته؟ هذا ما حدث.. وفى كل العصور وفى ظل كل الرؤساء الذين نتهمه بأنه صار من أنصارهم ومحبيهم، من أول جمال عبدالناصر وحتى محمد مرسي.

وأقفز قليلا لأسأل سؤلا مختلفا.. هل تعرض الرجل نفسه لحبس حريته أم أن أعماله هي التي تعرضت لذلك؟! وأجيب.. كلاهما، وستشعر بالدهشة حتما حين أخبرك أن ذلك الشاعر الكبير والمؤثر في الجميع حكومة وشعبا لا تزال بعض أغنياته ممنوعة حتى في عصر السيسى.. كيف يحدث ذلك، ومن ذا الذي يملك أن يحبس أغنيات «حارس الهلالية»؟! الإجابة ليست بهذه السهولة ولا بالسرعة التي تريدها، لأن ما نملكه من مفاجآت لا تتعلق برئيس واحد.. ولا عصر بعينه.. فالرجل الذي جاء إلى القاهرة بلا «زاد ولا ميه» هربا من «جحيم قنا» وطمعا في براح «مصر» لم تحاصره صرعات الفقر بمفردها، ولكن غباء السلطة، أي سلطة كذلك، وربما «الإهمال» أيضا.

ستندهش أكثر وستسأل.. وهل هناك بعد كل ما سمعناه من أغنيات للأبنودى على ألسنة عشرات المطربين، ومن كل الأجيال أغنيات لا نعرفها.. وأجيب، نعم، وسنشرح لكم بالتفصيل حكاية كل غنوة ممنوعة للخال، سواء كان المنع بسبب الأبنودى نفسه، أو بسبب ظرف سياسي أو اجتماعى لم يكن يحتمل، أو ربما لأسباب أتفه من ذلك بكثير، وفى بعض الأحيان حبس الأبنودى «نفسه» بعض أغنياته.

باختصار هذه الصفحات من أجل «الحرية الكاملة» التي كان يتمناها «الشاعر» الأبنودى مثلما يتمناها أي مبدع في أي مكان في العالم، هذه الصفحات تفتش عبر خمسين سنة كاملة عن عشرات الأغنيات الممنوعة والمجهولة والمنسية من تراث عبدالرحمن الأبنودى.


جئنا لنقول.. وليسمع العالم

عاش الأبنودى أيامه الأولى كما يشاء، السماء الواسعة من فوقه والأرض البراح تحته، ست سنوات كاملة قضاها في أبنود راعيا للغنم، وصيادا للسمك وقت الفيضان، وصيادا للعقارب من بين شقوق البيوت الطين.. في المزارع والجناين يخش بيده السمراء «الناشفة» في الغيطان، ويسرق رمان السواقى.. بالطول والعرض وجسد عار إلا من جلابيب «بفتة» غيرت الصحراء والغبار لونها الأبيض إلى الأزرق الكالح.. هذه الأيام الحلوة لم يصادر أحدهم حرية الفتى، حتى وإن كان والده الرجل الأزهرى قد منع دخول الراديو إلى البيت، ففى الصحراء التي كان يرى أنها ورعى الغنم إما أن يجعلاك نبيا أو شاعرا كفيلتان بمنحه حريته الكاملة.

باختصار، عاش الطفل «رمان»، كما كان يسميه أهل قريته في ريف أبنود، حياة مليئة بالغناء.. لا حدود فيها رغم كل قيودها.. لا شىء يؤلم حتى المرض الذي غلبته فاطمة قنديل بتعاويذها الشعبية وغنائها وطب الفقراء، حتى الفقر لم يحبس حرية «الخال»، لكن أول منع حقيقى ظل في خيال الشاعر كان عندما ضبطه والده شاعر الفصحى المأذون الشرعى، حارس اللغة وخطيب مساجدها -ولأول مرة- حينما ضبطه ولأول مرة شاعرا للغة غير تلك التي يعرفها ويقدسها، والعقاب حاسم وقاطع، حرق الشيخ أول دواوين الأبنودى، ومثله فعل شقيقه الشيخ جلال وكان أزهريا أيضا، ولم يعد يذكر الخال شيئا مما كتب في هذ الأوراق التي صودرت، هذا عن الشعر أما الأغنيات فلم يكتبها الخال في أبنود، كانت أغنية وحيدة كتبها من قبيل التحدى والرهان مع الأصدقاء الذين كانوا يؤانسهم ويشاركهم المرح والاستماع إلى الراديو على دكة عم رفاعى القومسيونجى تاجر الفاكهة، هذه الأغنية قال لى الخال، إن سيد إسماعيل لحنها وغناها بعد مجيئه للقاهرة بسنوات، وكان اسمها «بالراحة يا حبيبى»، لم يمنعه أحد من الغناء في أبنود، هو الذي منع نفسه، فقد كان ينظر للغناء باعتباره نوعا أدنى من الكتابة.. هو جاء للقاهرة مع رفيق رحلته أمل دنقل ليغزيا العالم، وهكذا قالها أمل دنقل، جاءا مرتين، في الأولى للدراسة التي غادراها منهزمين إلى قنا ليعملا في إحدى محاكمها التي تركاها بإرادتهما الحرة تماما، أما المرة الثانية حين هبطا في محطة مصر لهدف وحيد، لخصه أمل في حوار منشور:


الريف مش ناعسة وخضرة

ذهب الأبنودى إلى مبنى الإذاعة مطلوبا.. مارحتش طالب حسنة.. ولا خبطت على باب حد»، هكذا قالها لى وهو يتذكر أول يوم له في مبنى الشريفين.. نشرت إحدى قصائده في «الأهرام»، وقام محمد حسن الشجاعى الإعلامي الشهير بإسنادها إلى حلمى أمين، نقيب الموسيقيين في التسعينيات، ليلحنها، وتغنيها المطربة فاطمة على، سمعها الأبنودى صدفة في ميدان العتبة، وسأل صلاح جاهين عن الأمر فأخبره أن الشجاعى يريده، وأن له مالا في الإذعة عليه أن يذهب لاستلامه، إذن دخل الخال لعالم الغناء من أوسع الأبواب لم يعترض طريقه أحد.. فتحت القاهرة ذراعيها له، كانت تقسو عليه ليلا «ماكانش فيه مكان يبات فيه.. كنت تروح محطة مصر.. بالتحديد البوفيه.. تلاقيه هوه وبهجت قمر وأى حد ما عندوش مطرح للنومة... البوفيه سهران للصبح.. يشرب شاى.. والصبح يغسل وشه.. ويتكل على الله يشوف رزقه».. هكذا شرح لى أحد أصدقاء الخال حاله في أيامه الأولى، بعدها تعرف على الملحن إبراهيم رجب، وعاش في بيته بالسيدة زينب، ثم عاش في منزل ليس ببعيد بجوار المدرسة «السنية» صعلوكا متمردا معتزا بشعره وبنفسه.. ومن «غنوة للثانية..حتى كانت «وهيبه» التي فتحت له أبواب السعد، من حلمى أمين لعبدالعظيم عبدالحق لبليغ حمدى، ومن فاطمة على لمحمد قنديل لمحمد رشدى، وفى ظرف عامين كان اسمه على كل لسان.. فالذي يكتبه جديد على الودن، كما أن البلاد كانت في طريقها للاشتراكية، تريد الغناء للعمال والفلاحين وللمصانع، هذا ما كان يريده عبدالناصر وما كان يكتبه الأبنودى، ورغم ذلك فوجىء بالإذاعة ترفض أن تغنى للريف الذي يعرفه، فالأمر ليس كما تصور الرجل تماما.

في الفترة التي عاشها الأبنودى مع إبراهيم رجب كان من الطبيعى أن يضعا عددا من الأغنيات دون تحديد مطرب لها، ومن بينها كانت أغنية تقول:

يلى عاجباك الخضرة

وجمال ألوان الريف

الريف مش ناعسة وخضرة

والضلة اللى في الصيف

وطاقية عبدالهادى

ولهجة عبداللطيف..

الريف الناس السمرا

اللى بتشقى وبتعافر

ف البرد أبو قيد وضوافر

والصيف الحامى الكافر

عشان تعمل رغيف

رفضت لجنة النصوص في الإذعة تلك الكلمات دون أن تبدى سببا، وحسب إبراهيم رجب يبدو أن مفردة «الصيف الكافر» لم تكن على هوى مدحت عاصم!! ونسى الأبنودى أغنيته، فقد كانت هناك عشرات الأغانى غيرها، لم يتوقف أمام الأمر كثيرا، وضاعت الأغنية، ونسى ملحنها باقى كلماتها، ولا أحد يعرف أين هي الآن، ولا يستطيع أحدنا أن يفهم سر عداء مسئول لجنة الاستماع لكلمات من عينة:

مش عايزين لا الطواقى

ولا الوز العراقى

عايزين مكن يدور

يكون حلو وتقيل

هاتوا المكن يغنى

وخدوا انتو المواويل

لكن الأهم أن الرجل قبل أن يسجل لهما أغنية أخرى عن نفس العالم، عالم «الخضرة» اسمها «النيل أمر»، لكنها اختفت أيضا رغم عدم منعها، وهى من الأغنيات المجهولة في رحلة الخال رغم عذوبتها وامتلاكها لجماليات تتجاوز تلك الفترة التي كتبت فيها:

«النيل أمر..

قال الشجر حاضر..

آدى الربيع.. حاضر

وآدى الورق حاضر..

أخضرْ.. ولوحتى الأخضر اتخاضر

لومافيش خاطر عشان النيل..

نعمل لمين.. خاطر؟!


الطريق إلى أبوزعبل

في كتابه «لمصر لا لعبد الناصر» يقول محمد حسنين هيكل وبالنص:

«أتذكر أننى في صيف ١٩٩٥ وهى الفترة التي وصل فيها عدد المعتقلين إلى قرابة خمسة آلاف، ذهبت إلى جمال عبدالناصر أقول له: معلوماتنا في الأهرام تقول إن عدد المعتقلين خلال الشهر الأخير قد زاد على خمسمائة معتقل، وكان رده.. قد وصلوا الآن سبعمائة مع الأسف.. وأنا أعرف».

إلى هنا ينتهى الاقتباس.. ولست بصدد محاكمة عبدالناصر هنا.. لكننى فقط أشير إلى تلك الفترة التي منعت فيها أغنية أخرى للأبنودى، وبالطبع لآخرين من شعراء جيله، لقد كان فؤاد حداد في السجن، ومجدى نجيب أيضا، وسمير عبدالباقى، وبصحبتهم كان هناك من بين هؤلاء الآلاف الخمسة الذين تحدث عنهم هيكل.. طالب في الفرقة الثالثة بكلية الفنون الجميلة تم اعتقاله على خلفية الانتماء لتنظيم شيوعى.

هذا الفتى الجنوبى الأسمر لم يكن يعرف أنه سيصبح مطربا لولا أن الوحدة في الزنازين دفعته لأن يؤنس نفسه فأحب السجان صوته، وكان يمنحه أربعة سجائر مكافأة له على غنائه، اسمه «محمد سيد محمد إبراهيم» كان أصدقاؤه يطلقون عليه من قبيل الدلع «حمام».

محمد حمام ذلك الفتى الذي تعود جذوره إلى جزيرة أسوان، الذي اختطفته أيادى رجال عبدالناصر من غرفته في منزل قديم ببولاق أبو العلا في أحد أيام عام ٥٩، لم يكن يدرى أنه سيصير مطربا وأنه سيغنى للأبنودى مجموعة من أروع أغنياته، ربما لا تعرف الأجيال الجديدة منها سوى أغنية «يا بيوت السويس»، وأنه سيحظى بأكبر رقم من أغنيات الأبنودى الممنوعة، ليس كرها في الأبنودى الذي ذهب لنفس السجن الذي خرج منه حمام، ولكن بعد عامين وعلى ذمة قضية مشابهة «الانتماء للتنظيم الشيوعى الصينى»، ولكن لأن حمام رفض بعد خروجه من السجن الانضمام للتنظيم الطليعى عند تكوينه.

أغنيات حمام الممنوعة سنتعرض لها لاحقا.. لكن أحد المسلسلات التي كتب الأبنودى أشعارها وأخرجها إبراهيم الصحن عام ١٩٦٨ باسم الفلاح، جمعته بمطربة تسمى عزيزة عمر طالتها سيوف المنع، كما طالت المسلسل نفسه الذي لم يعرضه التليفزيون من يومها، ويضم ٢٤ أغنية كتبها الخال ولحنها إبراهيم رجب، وغناها حمام وعزيزة...

والمنع لا لسبب سوى لأن ذلك الغناء يتحدث عن الناس في مواجهة السلطة.. عن الشعب.. عن الفلاحين الذين كافح عبدالناصر من أجلهم حتى آخر نفس في عمره، ويبدو أن من جاءوا بعده ظلوا يتعاملون مع المسلسل وأغنياته بنفس الروح من العداء.

إيه تصنع الرجالة ولا النسا

لما تكون الدنيا مدغمسة

ولا نعرف إن كنا في صباح أو مسا..

الأسود ف الأبيض ف الأحمر

فين الكبير والصغير

الدنيا صبحت تحير

غامت عيون الكل مش شايفين

آدى النسا زى الرجال طالعين

ولفين يا مشوارنا..

نهايتك فين..

لإمتى ندور ويا زمان مندار

نبحث على قشة عايمة

ف هوجة التيار

لإمتى نقف ف الليل

ننده عليك.. يا نهار!!