الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قراءة فى واقعنا الكنسي .. وادى الريان نموذجاً [4]

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لعل التطورات المتلاحقة التى شهدتها الكنيسة فى دائرة الأديرة الأسبوع الماضى فيما نشر من تقارير صحفية عن إقامة دير بوادى النطرون خارج تبعية الكنيسة، وهو أمر غير مفهوم، ويحتاج الى توضيح كنسى رسمى، وهى احداث تؤكد ما ذهبنا اليه من حاجة الرهبنة الى قراءة موضوعية تعيد لها انضباطها وضوابطها التى قامت عليها، خاصة بعد ما لحقها من تطور لمفهوم "عمل اليدين" والتسارع فى نمو انشطة استصلاح الأراضى وتداعيات التصنيع الزراعى والتسويق خارج اسوار الأديرة، واختفاء التلمذة والتجريف المستمر لشيوخ الرهبنة.
على أن للأزمة مدخلات اخرى بالتوازى مع محور الرهبنة، تتعلق بالتعليم الكنسى عبر ما يقرب من القرن، تتقاطع مع الرهبنة وتشتبك معها.
8
كانت مؤسسات التنشئة خارج الكنيسة تجرف منظومة القيم المصرية، وكنا فى داخل الكنيسة نبتعد عن الشاطئ دون ان نجيد السباحة، ويتواجه الفرقاء فيها دون أن يتوسط الصليب بينهم فتتصارع ذواتهم ويتحطم العشب تحت اقدامهم، ثم نستغرب ما صرنا اليه، هل كان هذا بسبب قدوم الإرساليات بأدوات لم نكن ندركها أو نمتلكها، فى مرحلة العصف التنويرى التى اجتاحتنا مع بواكير القرن التاسع عشر، فانتفضنا لحماية اولادنا بعد أن استهدفتهم هذه الإرساليات التى اصطدمت برفض غير المسيحيين لدعواتهم، ومقاومتهم، وكانت المعاناة مزدوجة، لدينا تراث بنائى لا نملك تفكيك شفرة كنوزه ومفاتيحها، وتواجهنا أدوات تواصل حديثة قادمة من الشاطئ الآخر للبحر المتوسط، ومن ضفاف المحيط البعيد، النهم للسيطرة على العالم، أدوات تكسر الحواجز، كتاب مقدس مترجم إلى العربية ومطبوع وترانيم تدغدغ الذهن، فى مواجهة صلوات بلغة عتيقة نحفظها ولا نفهمها، ودعوة للتخلص من التزامات الكنيسة التى لم نكن ندرك مراميها اللاهوتية والروحية، وقد صارت فروضاً، فكان أن ظهرت دعوات للمحاكاة، بغير تأصيل لاهوتى، فكان المنتج بلا ملامح، يستنفر قوى الرفض وصار عنوان المرحلة صدامياً، يرفع سلاح الحرم والقطع والتهديد.
وقد انتبه الارشدياكون حبيب جرجس لأهمية التعليم لم يجد متاحاً بين يديه ترجمات محققة للزخم الأرثوذكسى الآبائى، ويسجل أنينه فى كتابه "المدرسة الإكليريكية بين الماضى والحاضر" ”بَقِيَت الكنيسة القبطية في اضمحلال وضعف مدة خمسة عشر قرناً. وإنْ حقَّ لنا أن نصف هذا العصر، فإننا نسميه عصر الظلام، وعصر الركود والتأخير“، وعلى الرغم من الدور المهم والمؤثر الذى قام به إلا أن غياب المراجع الآبائية خلف واقعاً ملتبساً، القى بظلاله على مسار التعليم، وكان وراء كثير من المعارك الفكرية فى اروقة منظومة التعليم، وربما الى خارجها فى تحديد مفاهيم الرهبنة والخدمة، ويتطلب الأمر بذل جهود اكاديمية تأسيساً على القفزة التى شهدتها الكنيسة فى توفر المراجع الآبائية المحققة، والكوادر الأكاديمية التى تواصلت مع منابع هذه المراجع والدراسات المتعلقة بها، حتى يتطابق الشكل مع المضمون، ونسترد الأساس اللاهوتى الآبائى للكنيسة القائم على لاهوت الأسرار. وفى هذا نقرأ شهادة للدكتور جورج حبيب استاذ لاهوت اباء القرن الرابع (عندما أراد الأستاذ حبيب جرجس أن يقدِّم كتابًا دراسيًا في اللاهوت النظري اختار محاضرات الأب أوجين دي بليس الفرنسي الكاثوليكي، فصارت مادة أساسية تُدرَّس في الكلية الإكليريكية ... وعندما وضع كتابه المشهور عن أسرار الكنيسة السبعة، كان أهم مرجع استند إليه الأستاذ حبيب جرجس هو كتاب "الأنوار في الأسرار" للمطران جراسيموس مسرة مطران اللاذقية للروم الأرثوذكس . وفي عرضه لموضوع الكهنوت، سجَّل أستاذنا حبيب جرجس أنه قد اعتمد على مقالة نشرﺗﻬا الكنيسة الإنجليكانية، وأنه ضم أغلب ما فيها إلى الفصل الخاص بالكهنوت)
ونكتشف أن حاجتنا مازلت قائمة وملحة إلى أكاديميات بلغة عربية رصينة لأمهات الكتب من المصادر الأولى أو ما عرف باسم النصوص الآبائية ثم المصادر الثانوية فيما يصطلح بأنه كتابات معاصرة ودراسات بحثية أكاديمية الأمر الذى يتطلب تبنى الكنيسة ماليا وإدرايا لنخبة من المترجمين الباحثين وهو ما لم يتم حتى اللحظة رغم توفر ثلة من أساقفة موسوعيين مستنيرين منهم الأنبا انجيلوس فى شبرا وشريكه فى خدمة التعريب الباحث والمترجم المدقق السكندرى دكتور جرجس يوسف.
على أن الملاحظة الجديرة بالتأمل والتدبر أيضاً، فى السياق التاريخى، أن المدرسة الإكليريكية كانت فكرة يوحنا بك باخوم ناظر مدرسة الأقباط الكبرى الملحقة بالكنيسة المرقسية، مقر البابا البطريرك، ويبادر فيختار من طلبة المدرسة المتفوقين اثنى عشر طالبا يتقدمهم حبيب جرجس، ليلتحقوا بالاكليريكية التى يديرها يوسف بك منقريوس الذى كان من كبار رجال التعليم، فالفكرة والتنفيذ والإدارة تولاها افراد من خارج منظومة الإكليروس، فى تأكيد على دور العلمانيين فى دعم الكنيسة فى مسار تأدية مهامها ورسالتها، لكنها بدأت بغير قواعد علمية، حتى أنها كانت تبحث عن من يدرس مادة الدين المسيحى فى مفارقة مثيرة للاستغراب.
ثم تنتظم الإكليريكية وتستكمل كيانها التعليمى، وتشهد اهتماماً من البابا البطريرك ـ الأنبا كيرلس السادس ـ فيخصص لها اسقفاً، نيافة الأنبا شنودة، فينطلق بها محلقاً، ويدعم القسم المسائى بها، الذى يقبل حاملى الشهادات الجامعية، كرافد من روافد التثقيف اللاهوتى لخدام الشباب ومدارس الأحد، ليتطور الأمر الى انحياز كامل للقسم المسائى على حساب القسم النهارى، أساس الإكليريكية ـ والذى يعتمد على الإقامة الكاملة التى توفر شكلاً من اشكال التلمذة، فيأخذ تلاميذه عن معلميهم انماط الحياة ويتدربون على مواجهة اعباء الخدمة، كانت النتيجة أن ضمر هذا القسم، وتحول المسائى إلى مدرسة ليلية توفر لمن يقصدها فرصة الرسامة الكهنوتية، ولم تكن ضغوط الحياة خارج أسوارها وزحف البطالة بعيدة عن كل هذا، وانعكس هذا بالضرورة على مخرجات الإكليريكية، سلباً وايجاباً.
ومن يتابع بتدقيق ثقل المهمة التى تصدى لها الشماس حبيب جرجس عندما شرع فى وضع قواعد منظومة مدارس الأحد، يكتشف ندرة المراجع العربية التى يمكن التأسيس عليها، فما كتبه الآباء تحتفظ به مخطوطات يونانية وقبطية، وبعض من محاولات متناثرة، باللغة العربية، من العصر الوسيط، أغلبها فى دوائر الترتيبات والقوانين، وتحتاج لتحقيق لاهوتى وضبط كنسى ولغوى. فكان ان نقل عن مؤلفات قيمة من كنائس بالمنطقة العربية، وترافقنا ذات الأسئلة لماذا وكيف وماذا بعد؟
وللطرح بقية.