الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

يحيى الطاهر عبد الله.. شاعر القصة

يحيى الطاهر عبد الله
يحيى الطاهر عبد الله
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
على الرغم من عمره الأدبي الذي لا يتجاوز عشرين عامًا، فإن الأديب الراحل يحيى الطاهر عبد الله، هو واحد من علامات الأدب العربي في جيل الستينات، وكان ثائرًا على أشكال القهر والاستبداد، ساعيًا لاختراق وتحطيم التابوهات المسكوت عنها، كاشفًا للكثير من أسرار الحياة اليومية؛ ومُظهرًا لعالمه الجنوبي الساحر حافرًا في ذاكرة القارئ مفرداته الخاصة، التي جعلت الكثير من النقاد يطلقون على أدبه مصطلحا نقديًا جديدًا وهو "القصة القصيدة" وكانت أعماله المُميزة وأسلوبه المختلف دفعت الجميع للاهتمام به كظاهرة أدبية، ولقّبوه بـ"شاعر القصة".
بدأت حكاية يحيي الطاهر مع ميلاده في 30 أبريل عام 1938 بقرية الكرنك بمحافظة قنا، حيث ماتت أمه وهو صغير فقامت خالته بتربيته، وتلقي تعليمًا بسيطًا بقريته، فحصل على دبلوم الزراعة المتوسطة ليعمل موظفًا بوزارة الزراعة لفترة قصيرة، حتى انتقل إلى مدينة قنا في سن في الحادية والعشرين، وهناك كان اللقاء الذي غيّر حياته نحو الأدب، حيث التقى كُلًا من الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والشاعر الراحل أمل دنقل، لتجمعهم بعد ذلك رحلة صداقة طويلة، فتشاركوا السكن في قنا لثلاث سنوات.
بدأ يحيى الطاهر مشواره الأدبي الحافل عام 1961، فكتب أولى قصصه القصيرة "محبوب الشمس"، وأعقبتها "جبل الشاي الأخضر"، وكان عليه بعدها أن يتحمل فراق مؤقت لصديقيه، اللذان شكّلا معه مُثلث أثّر في عالم الأدب فيما بعد، ففي نهاية شتاء عام 1962 انتقل عبد الرحمن الأبنودي إلى القاهرة، بينما سافر أمل دنقل إلى الإسكندرية، وظّل يحيى الطاهر مُقيمًا في قنا لعامين، ليلحق بعدها بالأبنودي في القاهرة حيث الحركة الأدبية الحقيقية في فترة الستينيات، وأقام معه في شقة بحي بولاق أبو العلا، والتي شهدت كتابة بقية قصص مجموعته الأولى "ثلاث شجرات كبيرة تُثمر برتقالًا".
جاء انتقال يحيي الطاهر إلى القاهرة كشرارة الانطلاق الفعلية لمشواره الأدبي، وأخذ يتردد على المقاهي الثقافية التي اشتهر بها وسط القاهرة، والمنتديات الثقافية المُتعددة، ليُعرف خلالها كظاهرة فنية متميزة، فهو الكاتب الشاب الذي لا يُعطي نُسخًا من أعماله، ولكنه كان يُلقي قصصه التي كان يحفظها بذاكرة قوية إلى حد الغرابة، وكأنها قصائد نثرية، وهو الأسلوب الذي امتاز به، وكان يُحاول بذلك تقريب المسافة بين كاتب القصة والرواة الشعبيين الذين كانوا يحكون قصصهم على أنغام الربابة، وكانت صدفة مُهمة في حياته، وقُدّر لها أن تلعب دورًا هامًا في مُستقبله الأدبي، عندما كان يُلقي إحدي قصصه في مقهي ريش بوسط القاهرة، فاستمع له الأديب الراحل يوسف إدريس، ليُقدمه بعدها في مجلة الكاتب، وكذلك قدمه الكاتب الراحل عبد الفتاح الجمل في الملحق الأدبي لجريدة المساء، لتلتفت إليه الأوساط الثقافية والأدبية في مصر.
كان يحيي الطاهر يرى أن الكتابة في حد ذاتها انحياز لوجهة نظر في قضايا بعينها، ووسيلته للتعبير عن حياة البشر البسطاء في ربوع مصر، وعلى الأخص في جنوب وادي النيل حيث كانت نشأته، شارحًا ارتباط الناس بالمكان وما يحويه من حياة وحكايات ومعتقدات وأساطير، مُعتبرًا أن الحكي والقص ليس فقط تسجيل لكل هذا، ولكنها كذلك إعادة بناء لعلاقة البشر بالحياة والمكان، والمبنية على تراكم الخبرات والثقافة، بما يُساعد على توضيح هذه التجارب الإنسانية؛ وكان كذلك شديد الحرص على أن تعكس الكتابة تجربته الشخصية، ولكنه لم يكن يركز على الأحداث التي يمر بها في حياته، ولكن كان الأهم أن تعكس فهمه لأحداث الحياة.
جاءت أعمال يحيي الطاهر لتتمرد على القوالب الثابتة في القصة، فأوجد لغة خاصة به يمتزج فيها سرده، أو الحكي، بلغة شاعرية وإيقاعات منغمة، فأطلق عليه عدد من النقاد "شاعر القصة"، في الوقت الذي أطلق البعض الآخر على أدبه "القصة القصيدة"؛ حيث توغل في مناطق غير مأهولة أدبيًا، وكشف عن مناطق مجهولة ومسكوت عنها في الحياة إليومية في قرى الجنوب، والتي يعرف بحُكم نشأته فيها كل دقائقها، والعوالم السفلية لصعاليك المدينة التي برع في التوغل فيها منذ انتقل ليُقيم في القاهرة، ومزج بين الحكي والأسرار والتابوهات على خلفية من التراث، كما تمّيز عالمه بحضور قوي لعالم الأسطورة والخرافة، حيث كان يستخدم الرمز ببراعة في أعماله، وكان بتلك الرمزية، في نظام شمولي وآلة أمنية قمعية، يستطيع التعبير عن مدى انسحاق المواطن البسيط تحت وطأة آلات القهر والظلم.
https://www.youtube.com/watch?v=jivHr_j885w
وأبرزت أعمال يحيي الطاهر تمتعه بوعي قوي بمفردات الشخصية المصرية، وقدرته على صياغة هذه المفردات فنية تُعيد تشكيل الواقع والشخصيات، فجعل قارئه يتعاطف مع الصعاليك المشوهين، والمتمردين على واقعهم؛ وأبرز ذلك واحدًا من أهم الأعمال المتميزة له "تصاوير من الماء والتراب والشمس"، وهي عمل من ذلك النوع الذي يبقى مُعلقًا بين القصة الطويلة والرواية القصيرة، فاختار أشخاص وواقع يصعب تصويرهما متناولًا الواقع المسكوت عنه للمجتمع، والذي تنعدم فيه أدنى وسائل المعيشة الإنسانية؛ والتي تميز فيها بقدرة إبداعية على تصوير الواقع بعمومه، والشخصيات بتفردها في عالمه الخاص، بلُغّة قادرة على امتصاص الواقع، وتجسيده بلغة فنية دون نقل الواقع بذاته؛ كما أن أبطاله وواقعه يصعب تصويرهما دون أن يندمج الكاتب فيهما وتعايش معهما، فحكايات يحيى الطاهر تتناول الواقع المسكوت عنه للمجتمع، والمصير المعتم، حيث تنعدم أدنى وسائل المعيشة الإنسانية، فلا سكن، وظيفة، أو حتى أسرة؛ مُبرزًا أنماط فريدة في شخصياته، مثل الذي بدأ حياته في القاهرة شيالًا في سوق الخضار، ثُم انخرط في حياة الصعلكة بعد وفاة ابنه وأم ابنه، وكذلك اللص الذي تخصص في سرقة الطيور من البيوت، واللص المتخصص في سرقة المنقولات الثمينة ثم يقوم ببيعها إلى المتخصصين والإسكافي الذي ترك مهنته وأسرته، وتحول إلى إدمان الخمر وأصبح لا يستطيع التوقف عن، وكذلك لا يستطيع التوقف عن الاحتيال من أجل الإتيان بالخمر؛ وهذه الشخصية تحديدًا ظلّت حية في عقل ووجدان كل من قرأ العمل، حيث برع فيها الطاهر في تصوير شخصية المحتال الأعظم، صاحب الفلسفة في كل شئ، الصعلكة، والاحتيال، والموت، والحياة.
توفيَّ يحيى الطاهر عبد الله في التاسع من أبريل عام 1981 إثر حادث سيارة أثناء عودته من الواحات، فصعدت روحه في سيارة الإسعاف بسبب اختناق مروري في شارع الهرم، ورثاه صديق عمره الشاعر الراحل أمل دُنقل بقوله الشهير
"ليت أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يمت
هل يموت الذي كان (يحيا)
كأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصبًا
بينما ينحني القلب يبحث عما فقد"..
وعقب وفاة يحيى الطاهر، قرر المخرج خيري بشارة أن يصنع فيلم مأخوذ عن رواية للعملاق الراحل، وكان فيلم "الطوق والأسورة"، والذي يُعتبر واحدًا من أهم أفلام السينما المصرية المأخوذة عن عمل أدبي، وشارك افي كتابة السيناريو مع خيري شلبي صديق يحيى الآخر عبد الرحمن الأبنودي، وأصبح الفيلم واحد من كلاسيكيات السينما بالنسبة للمثقفين، رغم أنه لم يجد قبولًا أو انتشارًا على المستوى الجماهيري.
https://www.youtube.com/watch?v=s3rAADdG4y