الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قراءة فى واقعنا الكنسي .. وادي الريان نموذجًا [3]

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما زلنا نجوس فى أحراش الرهبنة المعاصرة عسى أن نضع أيدينا على مفاتيح أزمة وادى الريان، المتعددة الأطراف والاتجاهات، والتى اختلط فيها الروحى بالمادى، وتكشف عن اختلالات عميقة فى المنظومة وفى منتجها، تستوجب المراجعة والتصحيح.
6-تشهد الأديرة خاصة الكبيرة منها تطوراً نوعياً أخر وهو قصر الرهبنة على حاملى المؤهلات الجامعية، وتغلق بابها ـ إلا قليلاً ـ فى وجه الباقين، من حملة المؤهلات المتوسطة أو ما دونها، فى تطور غير مفهوم أو مبرر، ربما احترازاً من وصول أحد غير الجامعيين إلى الرتب الأسقفية، أو قيادة الكنيسة، الأمر الذى يفجر العديد من التساؤلات حول ماهية الرهبنة وحصر دورها فى الاختيار لهذه المناصب، وعن التأسيس للطبقية فى هذه المنظومة، وربما يقترب هذا بنا من تفهم ما حدث بوادى الريان الذى كان لفترة يقبل كل من يقصده دون اشتراط مستو معين للتعليم المدنى. فكان أن انقسم الدير إلى تجمعات طبقية، بفعل غياب الرؤية، كانت وراء المصادمات التى تحولت إلى بلاغات ومحاضر بالشرطة، بتحريض من خارج اسوار الدير بعد أن بدا أن الدير خرج عن ما استقر بمنظومة الرهبنة على مدى ما يقرب من نصف قرن.
ومع التراجعات المتتالية فى منظومة الرهبنة تقلصت مساحات التلمذة وانحسرت وكادت تختفى فعلياً، لتفقد الرهبنة فى كثير من مواقعها أحد أهم آليات تكوين الراهب، وتطعيمه فى سلسلة التسليم الآبائى، ومن ثم يتحول إلى عبء على الخدمة والدير وينقل تجارب وخبرات وربما صراعات العالم الى منظومة الرهبنة، برؤية ذاتية، تفتقر للروح الكنسية الآبائية فكانت النماذج التى ترى فى الحوار خروجاً وشططاً غير مقبول، وصدروا مفاهيم الطاعة الرهبانية إلى الفضاء الكنسى بينما تراجعت نفس المفاهيم داخل التجمعات الرهبانية، فجفت الأغصان خارج الدير وداخله، وصرنا نرى شبه دير وشبه كنيسة وشبه فضائل، وشبه تعليم آباء.
هل يفسر لنا هذا حالة الازدواجية التى تغشى شبابنا، يحرصون على شكل العبادة، أصواماً وصلوات، وزيارات مكوكية لا تنقطع للأديرة، وعلاقات وثيقة مع آباء كهنة ورهبان بل وأساقفة، بينما الحياة اليومية والعلاقات البينية الأسرية وفى دوائر الخدمة منقطعة الصلة بأبسط قواعدها بحسب منظومة القيم المسيحية، وتقدم لنا شبكة التواصل الاجتماعى نماذج صارخة تشهد على هذا التراجع حتى تخالها شبكة التقاطع الاجتماعى.
وتظل الأسئلة الباحثة عن إجابة موضوعية ترافقنا، لماذا وكيف وإلى أين؟.
7-إلى منتصف القرن العشرين كانت الأديرة تجمعات رهبانية بعيدة عن العمران، تحتفظ بخصوصيتها لا يطرق بابها إلا نفر قليل، لأسباب مختلفة، وكان أغلب قاطنيها من البسطاء والصورة الذهنية المستقرة خارجها عنها مشوشة، حتى بدأ عصر الرهبان الجامعيين، الذى دشنه الأب متى المسكين والأب مكارى السريانى (1948)، كل فى اتجاه، ثم بدخول الأب أنطونيوس السريانى وبعض من رفاقه (1954)، لتشهد الأديرة نقلة نوعية على عدة محاور، وتنتقل من العمل اليدوى إلى استصلاح الصحارى وما ترتب عليه، وتنتظم الرحلات إلى الأديرة، خاصة من شباب الخدام، وتتغير طبيعة الحياة الديرية، وتختل النذور الرهبانية عند غير قليل من الرهبان، ويقتحم العالم اروقة الدير، وينزعج الرهبان التقليديون، ويضطرب الفضاء الرهبانى، بتوارى الشيوخ، تختفى التلمذة، ويتطلع البعض إلى الرتب الأسقفية، وتتبدل معايير الاختيار، ونصبح أمام إشكاليات جديدة، تلقى بظلالها على المجتمع الكنسى وعلى المجتمع القبطى، خاصة فى عصر السموات المفتوحة، والتطور المتلاحق فى آليات الاتصال، ودخول الإعلام فى المشهد، وقد اكتشف فى الكنيسة والدير تشابكات وقضايا تستحق عنده المتابعة والنشر وما تحمله من إثارة ورأى البعض فيها ما هو أبعد من ذلك فأطلت السياسة بصراعاتها وتطلعاتها وأهدافها برأسها، ولم يكن اقتحام الإعلام والسياسة بريئاً فى كثير منه.
لا يتوقف الأمر عند نوعية طالبى الرهبنة أو من تم قبولهم فى صفوفها، أو غياب التلمذة واختلالات العلاقات داخل الأديرة، أو عدم اكتمال التكوين الرهبانى قبل الإختيار للمواقع التدبيرية، وانعكاسات هذا بالتبعية على أداءات بعض من الأساقفة والمدبرين، وما ينتجه من مشاكل عديدة، كان ضعف الكنيسة المحلية بالقرية والمدينة دافعاً للشباب لتلمس النصيحة والتعليم خلف اسوار الأديرة، خاصة بعد أن ارتسمت فى ذهنه صورة طوباوية عنها، لتشهد الأديرة زحفاً متواتراً من الشباب للزيارة والجلوس إلى الرهبان، وتخصص الأديرة أماكن لمكوث الشباب بشكل مؤقت ليوم أو أيام، عُرفت ببيوت "الخلوة"، يخصص لها أحد الرهبان لمتابعة قاصديها، وهى تجربة تحتاج لتقييم موضوعى فقد انعكست فى بعضها سلباً على الدير والكنيسة والشباب، وتقف وراء عديد من الإشكاليات التى اقتحمت المشهد الكنسى.
ونرصد أن الأديرة ـ فى أغلبها ـ صارت واحدة من مراكز الثقل الاقتصادى، على مستويات متعددة، الأمر الذى كان يتطلب تطوراً موازياً فى منهج الإدارة الديرية من داخل ومن خارج، بما يحقق التوازن بين "عمل اليدين" والالتزامات الروحية اليومية للراهب، فلا يصاب بالضجر ولا تستغرقه متطلبات العمل، وبما يحقق أهداف الرهبنة التى تأسست وعاشت من أجلها، ودورها الحيوى فى حياة الكنيسة.
هل تحتاج الرهبنة إلى ابتكار وإضافة نسق وسيط بين شكلها التقليدى وبين احتياج الكنيسة لطاقاتها فى منظومة التعليم ودوائر العمل الاجتماعى، فيما يمكن أن نعتبره "رهبنة خادمة"، أو "التكريس الخدمى"، أو نحسبه إعادة إحياء خدمة "الدياكونية المكرسة"؟.
وخارج أسوار الرهبنة كانت منظومة التعليم تئن أيضاً وتعانى من اختلالات لا تقل جسامة عن نظيرتها بالرهبنة ، وهو ما سنطرحه فى مقالنا القادم، فالرهبنة والتعليم الكنسى لا يقفان بعيداً عن أزمة الريان، والإدارة أيضاً.