الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

حليم.. حلو وكداب.. الوجوه الأخرى لـ"العندليب"

العندليب الأسمر عبد
العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

38 عامًا على رحيل عبد الحليم حافظ، وهى فترة كافية أن تؤكد النظرية المؤكدة أن حليم «ظاهرة فنية»، لا ينتهى الحديث عنها ودراستها والنظر إليها من كل الجوانب، واستلهام عدد من الدروس منها أيضًا.

38 عامًا ولايزال موجودًا سواءً بصوته أو طريقته، وأشباهه ومقلديه، وتلاميذه، وأيضًا مازالت أغانيه الوطنية هي لسان حال الشعب، حتى بعد تغير العصور والأنظمة والأحوال، عاطفيته مازالت هي الموضوع الأول للأغنية المصرية الحديثة، ورغم فترة صعوده التي كانت مليئة بالمواهب والعمالقة أو بالأحرى الجيل الذهبي للموسيقى المصرية، إلا أنه استطاع أن يكون ثالث الثنائي الفريد محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، في تلك الفترة.


المجدد.. الظروف الاجتماعية والسياسية ساعدته في ارتداء أكثر من ثوب غنائي

اختراع الميكروفون إن لم يكن اخترع لأسباب أخرى، لكنت أجزمت أنه اخترع خصيصا لعبدالحليم، فهو الأكثر استفادة منه وتوظيفا له، وتلاه «السينما» والفيديو كليب، بجانب كل الظروف التي ساعدت عبدالحليم في شق طريقه من ظهور طبقة أخرى لا تهتم كثيرا بالطرب، ولا تمتلك المزاج على الجلوس لساعات لتسمع مقطوعة موسيقية ووصلة غنائية واحدة.

تضامن الظروف مع رغبة حليم ساعدته في نجاح مسيرة التجديد، ولكن ما هي أوجه التجديد؟ ما فعله يعتبر بمثابة ثورة في الساحة الغنائية بجانب ثورة يوليو، بداية من الاعتماد على «التعبيرية» في الغناء وليس القوة والزخارف الصوتية، وشمل منهجه الجديد التعبيرية في الأداء والكلمات من خلال جمل واضحة وبسيطة ومباشرة، وكذلك جمل لحنية قصيرة وسريعة وأحيانا شعبية، وتصدير «الإحساس» والشجن أولا قبل الطرب، والذي وصل بعض الأحيان إلى «الافتعال» من خلال تعبيراته الجسدية، وتغيير ملامح الوجه لخلق حالة من الشجن، وكذلك التفاعلية التي خلقها عبدالحليم مع الجمهور وفرقته الموسيقية، والتي غير معتادة وغير سائدة، فالكل في حالة جمود و«هيبة»، إلا عبدالحليم فبإشاراته وتحركاته على المسرح والتواصل مع الفرقة والجمهور كان غريبا، ربما خلق ذلك جوا حميما أكثر، ولكنه في النهاية تجديد وانقلاب على القالب السائد في ذلك الوقت.

الآلات الموسيقية وعدد الفرقة، كان ضمن ثورة عبدالحليم الغنائية، فاحتوت على كل الآلات الحديثة في ذلك الوقت، معلنا تمرده على «التخت الشرقي»، واستقدم «الكولة»، «الكلارينت»، «الكورديون، «الساكس»، «الكيبورد» وغيرها، وكل ذلك بفضل فريقه خاصة الطويل وبليغ، والأخير الذي استقدم هذه الآلات لخدمة ألحانه الشعبية، والفلكلور.

الاتجاه للشعبية والفلكلور والآلات المصاحبة لذلك، جاءت ضمن اتجاه حليم إلى ما يحتاجه ويعجب به الجمهور، حتى وإن استلهم ذلك من نجاح مطرب آخر مثل محمد رشدي، إلا أن مباركته على ذلك اللون، فتح الباب كي تصبح «موضة» ونهجا جديدا بداية من كل ثوب ارتداه حليم في مسيرته، مثل الثوب العاطفي، الوطني الشعبي، والقصائد والفصحى أيضا، فالتنافسية الشديدة ساهمت في تغيير مسيرته، وتشبثه بالتجديد، واستطاع أن يثبت تفوقه في كل لون، وبسبب ذلك البعض يرى أن حليم كان «بتاع سوق»، ولم يظهر ثوبه الحقيقي أو الذي كان يفضله، بسبب تقلبات العصر وساحة المنافسة.


المحتكر.. الطويل أخلص له طوال حياته.. والموجي الأكثر تلحينًا.. وتمرد بليغ أنهى احتكاره

"مغرور" من أغنية له إلى أشهر صفاته الفنية، التي تحولت مع مرور الوقت إلى رغبة في احتكار الأفضل له دائما من ألحان وكلمات، ولتتحول بعدها إلى رغبة في احتكار الأضواء واستمالة الصحفيين، ليكون الجميع من المقربين منه، ويصبح بطل أغلفة المجلات ومحور أخبارها من وقت لآخر.

منذ اللحظة الأولى لظهوره على الساحة الفنية، أدرك العندليب أهمية الصحافة ودورها في ترسيخ قدمه فنيا وجماهيريا، فحاول قدر الإمكان إشراك معظمهم في حياته الشخصية، وبدأت بمصطفى أمين الذي كان على علاقة جيدة به تحولت بمرور الوقت من صداقة عملية، إلى صداقة شخصية حرص حليم ألا يخسرها حتى بعد دخوله السجن، واظب حليم على زيارة مصطفى أمين في محبسه.

وذكر بعض المقربين منه أنه كان يحرص على مهاداة الصحفيين وزيارتهم دائما، ومعاتبتهم في حال نشر أخبار سلبية عنه.

إلا أن الاحتكار صار طريقة حياة العندليب، فكان حريصا على احتكار أفضل الألحان والكلمات، حتى وصل الأمر إلى احتكار الملحنين أنفسهم، وكان أبرزهم كمال الطويل الذي كانت بداية عملهم في ١٩٥١، ولحن ٤٣ أغنية على مدى مشوارهما الفني.

ولإدراك حليم أنه ظهر في وقت تغنى فيه عمالقة من ألحان الطويل، حرص أن يقربه له بشكل آخر من خلال الأعمال الوطنية، ولم يذكر أن أعطى الطويل لحنا لأحد في حياة حليم.

محمد الموجي يعد أكثر الملحنين الذين تغنى العندليب من ألحانهم، فغنى له ما يقرب من ٨٨ لحنا، وهو عدد من الألحان لم يصل له غيره، وجاء احتكاره له صدفة وليس إجبارا أو تدبيرا، فبالرغم من انطلاق اسم الموجي في سماء الملحنين عقب اكتشاف أم كلثوم لموهبته، إلا أنه تقاسم ثمار نجاحه من ألحانه للعندليب.

وجاء في المرتبة الثالثة بليغ حمدي، الذي أبدع في جميع ألحانه، وطور من أغنيات حليم، التي اتسمت بالعصرية والشعبية أكثر معه، وحرص العندليب أن يكون ملحنه الخاص، وبالفعل لحن له أكثر من ٢٦ أغنية.

ولم تدم علاقة الاحتكار بينهما طويلا فنشب خلاف بينهما استمر لسنوات، وحسب رواية بليغ حمدي، فإن العندليب تصور أن بليغ لم يعد يهتم بالعمل معه، خاصة أن آخر ألحانه وهى أغنية «هو اللي اختار»، ظلت طي النسيان نتيجة الخلاف بينهما.


البراجماتي.. تخلص من اسم عائلته وسطوة أخيه الأكثر موهبةً.. وفرديته وإيمانه بمشروعه الخاص من أسباب استمراره

كثيرًا من الصفات التصقت بعبدالحليم، واختلفت باختلاف النوايا التي تقبلتها، وكان للغموض الذي سيطر على حياته الشخصية عامل كبير في جعل فك أسرار شخصية عبدالحليم لغزًا مهما وهدفًا في حد ذاته، وأخذت تصرفاته على النقيضين بسبب عدم وضوحه، بداية من علاقته بالسلطة في ذلك الوقت، والتي رأى البعض أنها «حسن نية» من العندليب لإيمانه بأهداف الثورة، وآخرون رأوها وصولية ونفاقا، مرورا بدعمه بعض المواهب الشابة التي رآها البعض دليلا على تسامحه مع ذاته والجميع، وكذلك البعض رآها في إطار حروبه على بعض منافسيه وليست لله وللوطن، مثل تحيته لبليغ حمدي في كل حفلاته، التي تجاهل البعض كونها لافتة جديدة ومميزة واعتبروها تلقيحا على الملحن والموسيقار فريد الأطرش.. هكذا نجح واستمر عبدالحليم.

حليم الانتهازي والبراجماتي تكونت هذه الصورة عن عبدالحليم بداية من علاقته الأسرية إلى نهاية عمره، خاصة في علاقته بشقيقه الأكبر إسماعيل شبانة، الذي تبناه لفترة طويلة واعتبره ابنه، ومارس دوره بديلا لأبيه وعائلته التي لم يتأقلم معها حليم منذ وفاة والدته بعد ولادته مباشرة، والتي تسببت في انتشار أساطير حوله مثل اضطهاد قريته بالكامل له باعتباره نذير شؤم لتسببه في وفاة والدته، إلى «اليتم» الذي استغله عبدالحليم إضافة إلى مجموعة عناصر «صعبانياته».

أولى خطوات عبدالحليم في التخلص من أفراد عائلته هي تغيير اسمه الثاني من «ِشبانة» إلى «حافظ»، نسبة إلى مكتشفه في الإذاعة وقتها، في ضربة مزدوجة للتخلص من عباءة أخيه الأكبر والوصي والأكثر موهبة والأقوى صوتا والأحق باحتراف الغناء منه، واختصر خطوة الدفاع عن موهبته عند اقترانها بموهبة أخيه بـ«دفنها تماما»، والضربة الثانية كانت في كسب اسم موسيقى وسينمائي ومحاباة رئيس الإذاعة، وحكى بعض المقربين من حليم أنه وأخاه ظلا محتفظين بتلك «العقدة» طوال حياتهما.

انتقل النهج الفردي لدى عبدالحليم إلى فنه وصوته أيضا، بداية من فهمه لتغيرات الأنظمة السياسية والاجتماعية إبان ثورة ٣٢ يوليو ١٩٥٢، بانتهاء الملكية والطبقة الغنية، وصعود العسكريين والطبقة الوسطى والفقيرة، فكان شعاره: «اللي هيخرج من الثورة.. عمره ما هيبان في الصورة»، فغنى للثورة ورموزها، وغنى عليها ولأهدافها وكذلك للطبقة الوسطى والعاملة والصاعدة، كأنه يربى جمهوره الجديد، وبالفعل نجح في ذلك، إلى أن انتقلت تلك الفردية في احتكار الملحنين وفريق عمله، مثلما حدث مع كمال الطويل والموجي وبليغ حمدي، الثلاثي الأشهر في فرقه، وحكاياته التي روت عن معاناته بسبب تمرد بعضهم عليه، أو هكذا كان يرى عندما يريد أحدهم العمل مع مطرب آخر غيره، لدرجة أنه كان يطاردهم ويراقبهم خوفا من الاجتماع أو السهر مع منافسيه خاصة محرم فؤاد.

الغيرة والبراجماتية، ألصقت صفة «التجديد» لعبدالحليم دون قصد، ولكن بالطبع تنسب وتحسب إليه، فهو الأكثر استفادة من التطورات التكنولوجية في تغطية عيوب صوته وقلة إمكانياته، خاصة أن الجمهور «السميع» في ذلك الوقت، كان صعب الاقتناع بأي صوت، إلا إذا أثبت أنه أكثر امتلاكا للقدرات الخارقة، سواء في قوة الصوت والتلحين بجانب المكملات الطربية الأخرى كالزخارف والاستعراض وغيرها.. ولكن ماذا يفعل الفتى قليل الحيلة والإمكانيات وسط جمهور لا يرحم ومنافسين خارقين؟

بجانب كل ذلك كان يرفض عبدالحليم الغناء الجماعي، إلا إذا كان هو البطل في الأغنية، وهو ما ظهر في رفضه مرارا العمل مع فريد الأطرش، وقبوله الغناء مع الشخصيات الأخرى، خاصة الأصوات النسائية وبالتحديد شادية، بخلاف الأوبريتات.

وعلى هذا المنوال كانت علاقته بالضباط الأحرار والنظام، والتي كانت مبنية على عنصرين: «تبادل المنفعة»، و«الوطنية»، فالثانية كانت هي الدافع الأول لحليم في الغناء للاشتراكية والقومية ولجمال عبدالناصر وللوطن، كونه من إحدى الطبقات التي استفادت من الثورة وآمنت بمبادئها، والأول ظهر في الدعم الجماهيري الذي حصل عليه بعد تقديمه كمطرب «الثورة»، الذي كان كفيلا بأن يختصر عليه خطوات كثيرة لإثبات ذاته.

وفى السينما، كان حليم يتعامل معها كفرز ثان، إخلاصه الأول للغناء، حاول فيها تقديم ذاته كعاطفي سواء في الغناء أو التمثيل، تاركا جوانبه الأخرى في أغانيه، ولم يستطع في البداية فرض فرديته في بداية مشواره إلى أن استطاع أن يجبر محمد عبدالوهاب على الدخول شريكا في الإنتاج كما في فيلم «الخطايا»، والذي كان يهدف منه حليم الحصول على مزيد من الضمانات والحرية لتقديم نفسه وصوته بالطريقة التي يريدها.


الشرير.. خطف حاشية «محرم».. وحاول منع أغاني «رشدي».. ومعركته مع «الأطرش» الأطول

يرى بعض من عاصروا عبدالحليم حافظ، أنه لم يكن يسلك طريق الشر في حياته، بل كان يستخدم وسائل دفاعية فقط، ويرد الشر بالشر حتى وإن كان «خفيف الدم»، أو مقلبا كما اعتاد أن يفعل ذلك مع منافسيه، إلا أن عبدالحليم كان يمتلك وجها شريرا خفيا، يظهر وقت إحساسه بالخطر على مملكته، أو اقتراب أحد منها، وكذلك تخرج في أوقات الغيرة والعصبية التي اشتدت عليه في نهاية مسيرته الفنية، حتى أخرجها على جمهوره شخصيا، في أحد الحفلات، عندما بدأ الجمهور في الهتاف له والغناء معه، ولم يستمعوا لمطالبته بأن الأغنية وهى «قارئة الفنجان» تحتاج لتركيز وهدوء، ما أخرجه من «عاطفيته» ليظهر الوجه الآخر ويعنفهم.

انتصر عبدالحليم في بعض معاركه «الشريرة» وانسحب في أخرى، خاصة مع الكبار مثل أم كلثوم وعبدالوهاب اللذين كانا في ذلك الوقت «خطا أحمر»، وجرب بنفسه ذلك الخطر عندما أبدى غضبه من تأخير فقرته الغنائية بعد أم كلثوم في أحد حفلات الثورة.

انتصر على بعض منافسيه الآخرين، خاصة الصغار، مثل محرم فؤاد الذي حاربه بكل الطرق، ولم ينتصر عليه إلا بمساعدة محرم ذاته، الذي فضل أشياء أخرى في حياته على الغناء، بعد أن قرر حليم أن يتعرف على فؤاد ويكسب صداقته من أجل خطف حاشيته من الفنانين والصحفيين، مثل عصام بصيلة ووجدي الحكيم وفؤاد معوض ومحمد حمزة، كي يترك محرم بلا فريق عمل أو حاشية.

الصحافة كانت الجزء الأكبر في شر عبدالحليم، حيث كان يهوى خوض المعارك من خلالها مثل ما فعله مع هاني شاكر، ودعمه ظاهريا ومحاربته عن طريق الشائعات في الصحف، وأبرزها شائعة اعتناقه الديانة المسيحية، ومساندته لعماد عبدالحليم وإلصاق اسمه به لإبعاد شاكر عن مملكته، وكذلك محمد رشدي الذي خطف منه فريق عمله أيضا لنفسه، حتى أن رشدي ذاته قال في أحد حواراته إن عبدالحليم حاول أكثر من مرة أن يمنع أغانيه من الإذاعة المصرية.

معركة العندليب مع فريد الأطرش من أكبر المعارك التي خاضها في حياته ولم يخرج منها مهزوما أو منتصرا، وحتى بعد تصالحهما لم يعرف أحد السبب الحقيقي للقطيعة والخلاف، الذي تدخلت فيه رئاسة الجمهورية في ذلك الوقت.

من النسخة الورقية