الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الحكي والكتابة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يدهشني جدا بعض الكتاب أو الصحفيين أو النقاد حين يصفون كاتبا أنه حكّاء عظيم، ومن خلال حياتي الأدبية أستطيع أن أقول إنها كلمة يقولها البعض الذين لم يقرأوا للكاتب، لكن الرجل طعن في السن أو مات فلا يجدون غير هذه الكلمة الحلوة الشكل الخادعة فهي تعني دون أن يدركوا أنه أي كلام، الكاتب يعني بمقياس، النقد الأدبي الحقيقي. لقد قامت المذاهب والاتجاهات الأدبية والفنية علي تغيير رئيسي في الشكل الأدبي وتغيير رئيسي في حكي الحكاية، والأعمال الأدبية الروائية بالذات هي حكاية في المظهر، لكنها بناء فني معقد تلعب فيه اللغة دورا والمكان دورا والزمان دورا والمشاعر أدوارا ! فإن تكتب عن رجل في أزمة ليس كما تكتب عن رجل في فرح، وأن تكتب عن رجل في صحراء ليس كما تكتب عن رجل في أوتوبيس، واستخدام الجملة يكون قصيرا أحيانا ويكون طويلا أحيانا حسب روح الشخصيات وروح المكان ولحظة الزمن. تفاصيل كثيرة يعرفها النقاد، والمدارس الأدبية حين قامت ضد ما قبلها من مذاهب كان وراء ذلك اختلاف طريقة الكتابة وتصور جديد للكتابة، هذه الثقافة النقدية ضاعت. يمكن- بل وهذا طبيعي- ألا تجد هذه الثقافة عند القارئ العادي أو الصحفي العادي لكن أن تأتي كلمة حكاء عظيم أو حكاء فقط من الكتاب والنقاد فهي ليست مدحا لكنه ذم خفي عند البعض واستسهال عند الآخرين ولا أريد أن أقول عدم معرفة حتى لا أسيئ إلى أحد . أسوأ الروايات هي الحكاية العادية التي تتساوى فيها لغة كل الشخوص وتوضح مراميها ومعانيها وتشرح خبايا العمل الفني. فارق كبير أن تصف شخصية بالطريقة التقليدية فتقول مثلا إنه أو إنها ماكر أو ماكرة وأن تضعه في موقف يوضح أنه ماكر. وفارق بين جمل مرتاحة ممتدة وشخص نائم وجمل متشابكة ومتقاطعة الصور وشخص يحلم. فارق بين أن تقول إنه يحلم بكذا وكذا وأن تقدم الحلم بلغة الحلم وصور الحلم . وبعيدا عن الرواية فمن أراد أن يعرف ذلك عليه بقراءة تاريخ المذاهب الأدبية وتاريخ النقد الأدبي. وبعيدا عن الرواية مرة أخرى أقول عن الشعر إن أسوأ الشعر هو الذي يقول لك الحقيقة وأعظم الشعر هو الذي يقدم لك الصور التي تخرج منها بالحقيقة . والشعر ميراثه شفاهي ورغم ذلك فالشعراء الكبار لم يقعوا في فخ المباشرة . الحكي . فحين يقول امرؤ القيس "مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل" قدم لك صورة رائعة عن الفرس الشديد العدو الذي من سرعته لا تقدر أن تمسك بصورته . كان يمكن أن يقول فرس سريع لاتراه من سرعته. لكن الصورة التي قدمها هي الشعر العظيم. وهكذا . وفي حياتنا شعراء مثيرون يقولون أخبارا ويسقطون في المباشرة ويعترف بهم كشعراء لأنهم يتحدثون في مشاكل يومية. بنية الشعر لا فكرته كما هي بنية الرواية لا فكرتها. وأعود للرواية فأقول إن هناك دائما أكثر من مستوى للرواية. المستوى الأول تراه حكيا، والمستوى الثاني هو الأعمق والذي يتجاوز الحكي إلى الفلسفة. سأضرب مثلا برواية شهيرة لنجيب محفوظ هي اللص والكلاب. دون شرح كثير للغتها الرائعة التي كانت في إيقاع أحداثها، القارئ العادي سيعطف على سعيد مهران لفشله دائما في قتل غرمائه، والقارئ غير العادي سيعرف أن نجيب محفوظ يقصد ذلك ليقول في السر أو في المستوى الثاني إن الحل الفردي لا يصل إلى نتيجة ولابد من العدل الاجتماعي. وهكذا في كل الروايات العظيمة تجد البنية الخفية للعمل هي دليل براعة الكاتب وليس الحكي، بل هي صانعة الحكي. وأرجو بهذا أن لا أكون قد أسأت للحكائين الشعبيين الذين يعرفون متي يرفعون أصواتهم ومتي يخفضونها ومتي يلونون كلماتهم ومتي يبسطونها فهم، وهم أهل الحكاية والحكي، لا يتخلون عن بنية شكلية لها وليس أي كلام وخلاص.