الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمد على باشا.. صانع نهضة مصر

محمد على باشا
محمد على باشا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إشراف : سامح قاسم
أحب محمد على باشا مصر كثيرًا، وكان يراها مطمعًا لكل القوى الاستعمارية، وكان من أهم مقولاته "لن أتحمل أبدًا أن تكون مصر إنجليزية، وتركيا روسية".
البدايات
دخلت الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798، وخرجت منها عام 1801، تاركة خلفها دولة يجتمع عليها الثالوث البغيض، الجهل والفقر والمرض.
واشتد الصراع بين المماليك والدولة العثمانية، بينما كان الشعب حائرًا بين دولة عثمانية مهترئة وعصابة المماليك التي كانت تسرق كل ما تطوله أيدي أفرادها، وتقتل بدم بارد كل من يعترض طريقها، وتشيع الفوضى وعدم الأمن داخل شوارع البلاد.

كان محمد على خلال تلك الفترة في حامية ألبانية، متوجهة إلى مصر لتقف بجانب إنجلترا في موقعة أبي قير البحرية التي هزمت فيها من قبل المستعمر الفرنسي، وخرجت إنجلترا تجر خلفها أذيال الهزيمة، بينما استقر محمد على في مصر بعد خروج المستعمر الفرنسي.

وجد محمد على الدولة المصرية مقسمة إلى جزئين، الأول هم المماليك الذين استوطنوا مصر ويبحثون عن دولتهم الزائلة التي أصبحت في قبضة الدولة العثمانية الضعيفة، فانفردوا بشعبها على أن يتركوا الحكم للدولة العثمانية، ولكن الشارع للمماليك ينهبون الشعب ويستولون على ثرواته.

وكان النهب والسلب والقتل جزاء كل من يعترض طريقهم، وهو سمة هذه السنوات منذ 1801 م حتى عام 1805م.

أما الجزء الثاني في الدولة، فقد كان الوالي العثماني الذي يعرف حجمه جيدًا، فكان لا بد له أن يترك مساحة للمماليك ويتغاضى عن تجاوزاتهم حتى يستمر في الحكم، حتى لا يُقتل أو يُعزل بسبب المؤامرات ودسائس المماليك.
وبين هذا وذاك كان الشعب هو من يدفع الثمن.

علم محمد على بهذه الأمور وطمع في حكم مصر، وعلم أن حب الناس له هو من سيوصله للحكم، فلم يشارك في نهب المصريين أو سرقتهم أو قتلهم كما يفعل المماليك، بل كان في بعض الأوقات يدافع عنهم، ويرد لهم مظالمهم.

وشدّد على جنوده الألبان بعدم الاشتراك مع المماليك في سرقة المصريين.

أحبه المصريون ولكنهم لم يمتلكوا قرارهم بعد، فالوالي يعيّن من قبل الباب العالي في الأستانة.

وبعد رحيل الحملة الفرنسية من مصر، كانت الفوضى والاضطراب وانعدام النظام هي سمة هذا العصر، فقام السلطان سليم الثالث بتعيين "خسرو باشا" واليًا على مصر، الذي حاول أن يقضي على المماليك ولكنه فشل، غير أنه وجد خزانة الدولة خاوية، فقرر فرض ضرائب جديدة أثقلت العبء على الشعب، وفي المقابل أهمل "خسرو" دفع رواتب الجند الألبان الذين انقلبوا عليه مع ثورة شعبية أطاحت به من القلعة.

وكان محمد على هو وجنوده الألبان قد تحالفوا مع عثمان البرديسي الذي يترأس المماليك، ضد خسرو باشا، وطاردوه حتى وصل إلى الصحراء وفرّ هاربًا منهم، ولكن سرعان ما يعيّن الباب العالي واليًا جديدًا يدعى الطرابلسي، حكم مدة قصيرة لا تزيد عن أسبوعين، وسرعان ما حاصره المماليك وطُرد من القلعة.
ثم عُيّن والي آخر، هو على باشا بوغول، ويدعى الجزائري، وينزل في الإسكندرية عام 1803، إلا أنه قتل بعد أن حاول الانفراد بالسلطة عن طريق بعض الرشاوى والرتب للمماليك والألبان.

لقد كان محمد على ينظر أبعد من ذلك، ولكن لم يحن التوقيت بعد ليجلس على عرش مصر.
وعرف أن عليه أولًا التخلص من البرديسي، فأقسم لعثمان البرديسي على الأخوة المتبادلة، ولإثبات هذه الأخوة تنازل محمد على عن كل الامتيازات للبرديسي، فاطمأن له وأصبح دمية في يد محمد على، ووصل الأمر إلى أن الأخير أقنعه بأن تكون حراسته الشخصية من الجنود الألبان.

وكان محمد على يعلم أن الشعب المصري لن يطيق الانتظار أكثر من عام، فالوضع في مصر من سيء إلى أسوأ، ووصل التضخم الاقتصادي إلى أقصى درجاته، حتى إنه وصل سعر أردب القمح إلى أكثر من 50 بارة -العملة المصرية في ذلك الوقت-، مع العلم أن سعر الأردب في تلك الفترة كان 24 بارة، وانعدم الأمن ونهبت القوافل من قبل البدو في الصحراء، ومنعت الإمدادات من مصر العليا إلى العاصمة، وازداد الجوع والفقر والظلم، وأصبح البقاء للأقوى.

وتحوّلت القاهرة إلى بركان غضب، وارتفعت المآذن مع كل صلاة لتقول: "ما الذي تريد إضافته إلى شقائنا يا برديسي".

وقام الرجال والنساء على السواء بطلاء أيديهم باللون الأزرق دليلًا على الحداد الذي ساد في مصر، وحانت لحظة إلقاء البرديسي إلى الجحيم، وقام محمد على بنشر جنوده الألبان في الشوارع، لمنع المماليك من نهب المصريين وترويعهم، ويفقد البرديسي السيطرة على زمام الأمور فيفر هاربًا إلى الصحراء، وأصبح محمد على في المقدمة بحب الشعب المصري.

الحالة في مصر مزرية، لم تنجو منها إلا بعض الآثار المهملة الملقاة في الطرقات إلى جوار القمامة، وبعض البيوت جميلة المظهر المحاطة بالخرابات.

قدّر عدد سكان مصر في هذا التوقيت بأربعة ملايين نسمة، ووصل عدد سكان القاهرة إلى 250 ألف نسمة، عند وفاة محمد على عام 1849م، كان عدد سكان مصر نفس الرقم، وذلك بسبب وباء الكوليرا في العام 1831، والذي تسبب في مقتل 180 ألف نسمة، ووباء الطاعون في العام 1835، والذي أودى بحياة نصف مليون آخر، إضافة إلى التجنيد والسخرة-.

كان سكان القاهرة من طوائف وديانات متنوعة، وجنسيات مختلفة، الأقباط 10 آلاف، اليهود 3 آلاف، المغاربة والسوريين تراوح عددهم بين 15-20 ألف نسمه، و10 آلاف تركي، و4 آلاف كاثوليكي، وألف مسيحي ماروني، وألفي أرمني، وباقي السكان يقفون كمشاهدين أمام الأحداث.

كانت النواة الأساسية والقائمة في عموم الشعب المصري من التجار والحرفيين، والفلاحيين.. بينما يكون العلماء ورجال الفقة والقانون منشغلين بالتعليم والدروس في المساجد، لا يتلقون أجورًا نظير عملهم، ولكن يتلقون دعمًا آخر من المؤسسات الدينية كالأوقاف، كالمعاشات والمكافآت والرواتب، إضافة إلى الإعفاء الضريبي.
كانوا يتوسطون دائمًا بين الوالي والعامة من الناس، بحكم وظائفهم القضائية والجامعية، وكانت العامة تلجأ إليهم دومًا.
كان بعضهم فاحش الثراء مثل الشيخ السادات، والذي قدّرت ثروته بنحو 450 ألف بارة.
كان من أهم شيوخ الأزهر الشيخ الشرقاوي، الذي انتخب من قبل المشايخة وبموافقة إلزامية، والمحروقي نقيب تجار مصر، أحد كبار التجار في البحر الأحمر، والسادات، وخليل البكري، وعمر مكرم نقيب الأشراف.

وقد نجح محمد على في الحصول على محبة عموم الناس، وثقة العلماء ورجال الفقة والقانون، ودافع عنهم أمام البرديسي عندما حاول الأخير تعليق مسئولية أحداث الانقلاب عليهم.

وقف بحزم وشدة وأعلن أن مسئولية الحكومة توفير رواتب الجند، وليس العلماء، وكانت إشارة غير مباشرة بأن محمد على هو الرجل الذي لا يخشى مواجهة المماليك.

قال الجبرتي عن هذه المجموعة من العلماء: "مشكوك في أمرها"، رغم قدرتهم الحقيقية على تحريك جموع التجار والمأجورين والباعة والفلاحين من الطبقات الدنيا.

وعلى الرغم من نجاح الألباني محمد على في اكتساب حب العامة، إلا أنه في حاجة ماسة للتأكد من قوة ثقة العلماء فيه هو وجنده.

ومع الانقلاب الذي أطاح بالبرديسي إلى الصحراء فارًا بحياته، لم يغامر محمد على بفرصته لتسلم السلطة، وقرّر أن يختبر حدود قوته للمرة الأخيرة، وأرسل خطابًا إلى السلطان سليم الثالث الباب العالي في الآسيتانة، متهكمًا عليه في قرارة نفسه، يشير فيه إلى تعيين خورشيد باشا حاكم الإسكندرية، والذي عُيّن بالفعل في مارس 1805 باشا لباشوية القاهرة، وهو يعلم تمامًا أنه رجل بلا تصورات.

يسارع محمد على وجنوده الألبان إلى استقبال خورشيد باشا في بولاق عندما رست مركبه الشراعية، واستقبله بتحية المدفعية، والموسيقى المباركة، وبعد عشرين يومًا من استقباله، يصل فرمان من الباب العالي.

وذكر الجبرتي في كتابه نص الفرمان: "تسلم الحكومة في مصر إلى أحمد خورشيد باشا، وقد اهتدينا في اختيارنا هذا إلى ما نعرفه عنه من أهلية للتصرف، ومن استقامة وذكاء وحكمة إدارته".

تجاهل محمد على –ابن كفالا-، الفرمان وكأنه لم يكن، لأنه كان متأكدًا من أن شرعية خورشيد باشا شرعية صورية، ويعلم جيدًا أنه الحاكم الوحيد على السلطة العسكرية، وكلمته مسموعة عند المصريين، ولكن يظل كلاهما معرضًا لخطر المماليك، لأن بريطانيا كانت تعد محمد الألفي باشا لباشوية القاهرة بعد أن سافر إلى إنجلترا عام 1803، وصار مدلل كل لندن، وفتح له الاستقبال الرسمي في البلاط وصالونات المجتمع الأرستقراطي، وفور أن علم الألفي بك بالانقلاب على البرديسي عاد إلى القاهرة بصورة اللورد محمد بك الألفي المنافس الجديد لمحمد على؛ في سباق الوصول إلى القلعة مقر الحكم.

في تلك الأثناء عاد محمد بك الألفي من انجلترا إلى مصر وهو معتدّ بنفسه، كان يرى أنه الرجل الأول وسيد مصر، وشرع في قبول كل العروض تحت هذه الصفة.

وكان له تأثير في الأهالي وخصوصًا في الضواحي، وازدادت شعبيته، وأخذ بعض المنتفعين في المساهمة وجمع التبرّعات لتأمين نفقاته مقابل الحصول على بعض الامتيازات حال وصوله إلى القلعة.

وشعر محمد على بأن مخططه الذي أعدّه منذ خروج الحملة الفرنسية من مصر في خطر.
وما إن وصل الألفي إلى القاهرة حتى نصب محمد على فخًا لأنصاره وأجبرهم على التفرّق، وشعر الألفي بالضعف فقرّر أن ينجو بحياته ويهرب إلى مصر العليا ويتمركز في المنيا، قبل أن يأسره محمد على.

وأعاد ابن كفالا النظر من حوله:
الدولة العثمانية كانت في حالة مزرية، والسلطان سليم الثالث غارق في الصراعات التي بدأت أول مرة في عهد السلطان بايزيد الثاني (1481هـ-1512م) حيث ثار الإنكشارية –طائفة عسكرية من المشاة العثمانيين شكلوا تنظيمًا خاصًا بهم، وثكناتهم العسكرية، والشارات والرتب، والامتيازات، وكانوا أقوى فرق الجيش العثماني وأكثرها نفوذًا-.
قتلوا الصدر الأعظم –رئيس الوزراء- فرماني محمد باشا، وعزلوا السلطان بايزيد الثاني ونصبوا ابنه سليم (1513-1520م)، وتمرّدوا على السلطان سليمان القانوني (1520-1566م)، وقاموا بنهب قصر الصدر الأعظم إبراهيم باشا.
اعترضوا موكب السلطان سليم الثاني (1566-1574م)، واشترطوا عليه دفع مكافأة مالية لمواصلة موكبه إلى القصر ودفع مكرهًا، وتحدّوا السلطان مراد الثالث (1574 -1595م)، وقتلوا مسئول أموال الإمبراطورية، وعزلوا السلطان عثمان الثاني (1618 – 1622م) وقتلوه وقتلوا الصدر الأعظم حسن باشا في عهد السلطان مراد الرابع (1622-1640م)، كما عزلوا السلطان إبراهيم الأول (1640-1648م).
وأغرق هذا الصراع الدولة العثمانية فانشغل السلاطين والوزراء بدرء هذا التهديد الداخلي، وابتعدوا وأهملوا التحديات الخارجية، ومنذ بداية عهد السلطان أحمد الثالث (1703-1730م)، حتى السلطان محمود الثاني (1785-1839م)، بحثت الدولة العثمانية لإيجاد طرق تجري فيها إصلاحات عسكرية من شأنها إضعاف الإنكشارية بهدف حلها، ولكي يحققوا ذلك أباحوا لأنفسهم الاستعانة بالعامل الخارجي واستجلاب خبراء أوروبيين وقبول مساعدات واستشارات أوربية للقضاء على الانكشارية تمامًا.

كان محمد على يعلم تمامًا أن السلطان سليم الثالث أضعف من الانكشارية، وأن كرسيه إلى زوال، ولم يعطه اهتمامًا، بل كان أحيانًا يسخر منه في مراسلاته، وكانت أكبر سخرية حين أرسل له توصية بتعيين خورشيد باشا.

كان محمد على وخورشيد باشا مهددين من قبل المماليك، ولكن ابن كفالا كان له نصيب الأسد من هذا التهديد، حيث اجتمع عليه البرديسي الذي فرّ إلى شمال الصحراء الغربية، والألفي الذي فرّ هاربًا إلى الصعيد، وشكلّ كل واحد منهما حلفًا من مناصريه، وأخذ الأول يتسلل إلى مصر السفلى، يستولون على قليوب، أما الألفي فقاد عسكر في المنيا وهاجم الفيوم، وشرعا في حملات على أطراف العاصمة والجيزة وسقارة وإمبابة، وركدت حركة التجارة التي كانت تمثل المورد الرئيسي للمال.

وظلت الحاجة إلى المال هي العائق الأكبر أمام حكومة خورشيد باشا، وأشار ابن كافالا على خورشيد أن يُحمّل المماليك وأنصارهم تكاليف الحرب، ولم يكتفِ بذلك، بل وصل الأمر إلى تأميم أموال أرامل المماليك وأهلهم وذويهم، حتى جيرانهم، وكل من له صلة من قريب أو بعيد بأي مملوك، لدفع رواتب الجند.

لم ينزعج محمد على من هجمات المماليك، بل كان في قرارة نفسه سعيدًا حينما وجد أزمة خورشيد باشا التي ستطيحه من الحكم تزداد، ولم يُرِد أن يضعف جنوده في حرب مع المماليك الآن، ولكن حتى يثبت ولاءه لخورشيد ويحصل على ثقته، قام بحملات محدودة على أطراف القاهرة حتى لا يرهق الجنود الألبان.
كان أتباع محمد الألفي يتمركزون في المنيا، ولكنهم قرّروا التحرّك بالفرقاطة –حملة عسكرية- إلى الفيوم، وما أن علم محمد على حتى قرّر مهاجمة عاصمة مصر العليا –المنيا- ولكنه فشل في السيطرة على المدينة، وأعاد الكرة مرة أخرى ونجح في السيطرة على عاصمة المماليك، وكان ذلك بمثابة نصر كبير، يضعف وضع الألفي وأتباعه، ويرفع من قيمة محمد على أمام خورشيد باشا.

خورشيد باشا بدأ التشكيك في نية محمد على، خصوصًا أن لابن كفالا سابقة قريبة مع البرديسي، وأرسل إلى الباب العالي يعرض عليه تخوّفاته، واستشعر السلطان سليم الثالث الخطر من محمد على وجنوده الألبان، وأرسل خطابًا إلى محمد على يطلب منه أن يترك مصر مستخدمًا لغة دبلوماسية عالية، وجاء نص الخطاب:

"سوف تعلمون حسب الوقائع أن فرنسا بفرض سيطرتها على مصر، جعلت الباب العالي يبذل تضحيات كبيرة من المال والرجال لاستعادتها، ومنذ ذلك الحين يعمل رجال سيئو النية من بينكم على إعادة النيل تحت سيطرة المماليك.

والباب العالي لا يحمّلكم جميعًا مسئولية هذا الخطأ، مهما يكن الأمر، فما مضى قد مضى، وجاء التسامح ليحمي المخالفات، ولهذا فإن الباب العالي يدعوكم إلى الرحيل عن مصر والعودة برفقة جنودكم الألبان الشجعان.. هل يمكن أن ترفضوا الالتحاق بأسركم التي تشرّع أحضانها لاستقبالكم، ولا يشك الباب العالي مطلقًا بأنكم ستسارعون إلى الاستجابة لتدابيره الطيبة الشريفة، وتنفيذ أوامره بالطاعة التي يستحقها".

ولكن ستبقى أمنيات الباب العالي حبرًا على ورق.

واستقبل ابن كفالا خطاب السلطان سليم الثالث وهو في المنيا، وكأنه لم يرسل له شيئًا، وقرّر خورشيد الاستعانة بجنود من الخارج لمواجهة خطر محمد على إذا لزم الأمر، وبالفعل استدعى 1500 جندي أطلق عليهم «الدلهيون» أي المجانين.

وللشعب المصري في هذه المرحلة طبيعته الخاصة، وكونه فقيرًا وضعيفًا وجاهلًا، كان يحب كل من يحنو عليه، ويكره كل من يتجبر.

وهذا ما فعله الجنود "الدلهيون"، فقد تجبروا وأشاعوا الفساد في البلاد، بل تسبّبوا في الإخلال بالنظام العام، ووصل الحال إلى الفوضى بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

ومن الناحية الأخرى كان ابن كفالا على يقين بأن خورشيد لن يقوى على دفع رواتب الجند، وأن خزينة الدولة خاوية، فقرّر الانسحاب من المنيا متجهًا إلى القاهرة مرورًا ببني سويف للمطالبة برواتب الجند المتأخرة.

تعامل ابن كفالا مع أهل المنيا بالإستراتيجية نفسها التي استخدمها من قبل في العاصمة، وهي عدم التعرّض للأهالي بسوء، فأحبته المدينة، وما إن علموا أنه قرّر التوجه إلى العاصمة حزنوا كثيرًا.

وبالفعل غادر محمد على وكل جنوده الألبان مصر العليا، وتوجّه إلى القلعة للمطالبة برواتب الجند المتأخرة، وحين أخبره خورشيد باشا بأن دفع الرواتب الآن مستحيل، طالبه بكشف حساب لكل ما دخل الخزينة في فترة حربه ضد المماليك في المنيا.
تأكدت شكوك خورشيد باشا، فاتخذ التدابير العسكرية اللازمة، ونقل كل المدفعية إلى القلعة، واستقر الدلهيون في مصر القديمة.

ومع تصاعد حدّة الخلاف بين محمد على وخورشيد باشا؛ يستمر المماليك في إشاعة الفوضى في الجنوب والشمال، هاجموا الفلاحين في البحيرة، وسرقوا المواشي والمحاصيل، ومن الجنوب أغلق المماليك مداخل العاصمة.

ويكتب "دروفيتي" – رحالة ودبلوماسي إيطالي ومستكشف وأثري كان يعتبر بشكل ما قنصل نابليون في مصر-، إلى تاليران -سياسي ودبلوماسي وقائد عسكري فرنسي يعمل تحت أمرة نابليون: "ازدادت التجاوزات إلى ما لا حدّ له، ولا يجرؤ أحد على الخروج من بيته خوفًا من التعرّض للقتل أو السلب، لم يعد للباشا –خورشيد- أي سلطة، وهذا الوضع بلغ مرحلة سيئة جدًا".

عسكر محمد على بجنوده في القاهرة، معلنين أنهم لم يأتوا إلا للمطالبة بالرواتب المتأخرة، وهو ما جعل الجنود الدلهيين لا يقابلونهم بأي مظهر عدائي، ووجّه محمد على لخورشيد باشا إنذارًا أخيرًا لدفع الرواتب.

اتخذ خورشيد موقفًا عدائيًا وأصدر تعليماته إلى أعيان مصر بعدم زيارة محمد على في بيته بالأزبكية، إلا أن الأعيان خالفوه وقاموا بزيارة محمد على في منزله، ومعهم عدد كبير من أهالي المدينة.

وضح للباب العالي أن الأزمة الموجودة في القاهرة يديرها محمد على، حتى يستطيع السيطرة على الحكم فيها، فأرسل فرمانًا إلى خورشيد باشا ليسلمه يدًا بيد إلى محمد على، والذي يوصي فيه بتعيينه باشا على جدة، وكانت بمثابة ترقية لإبعاده عن القاهرة.

وأرسل خورشيد باشا إلى محمد على ليسلمه الفرمان؛ لكن الأخير كان حذرًا، وحسب قول الجبرتي، فإن محمد على رفض التوجه إلى القلعة لتسلّم الفرمان.

وبالفعل استقبل محمد على أمر تنصيبه في منزل بيت السيد آغا، وتظاهر بالفرح أمام الجميع فور علمه بقرار الباب العالي، وخرج من المنزل لتستقبله حامية ألبانية وتطالبه بالرواتب المتأخرة، فأشار إلى خورشيد باشا قائلًا: "ليس لدى الآن أي سلطة، اقصدوا سُموّه الحاضر معنا هنا".

وفي بيت السيد آغا تتمكن الحامية الألبانية من خورشيد باشا وتتهمه بتحويل أموال الخزينة العامة إلى مصلحته.

وتوجه محمد على مباشرة إلى منزله في الأزبكية متظاهرًأ أنه في حالة سعادة غامرة، وبدأ يعطي الفقراء عملات فضية وذهبية، ولكن ليس بتتويجه باشا على جدة، بل لأن الأمور بدأت تخرج عن السيطرة.

وفي صباح اليوم التالي يستدعي خورشيد باشا المحروقي، وجورج الجواهرجي، وفرض عليهما أداء مبلغ ألفي بورصة، ولكن المبلغ لا يكفي.

كان الهدوء يخيّم على الوضع بين ابن كفالا وخورشيد باشا بشكل عام، إلا أن الفوضى مستمرة.

واضطر خورشيد إلى الخطأ نفسه الذي ارتكبه من قبله البرديسي، وأعلن أن على العاصمة المساعدة في دفع رواتب الجند، حتى ينجح في السيطرة على الفوضى التي تعم البلاد، في إشارة إلى فرض ضرائب جديدة، وهو ما تسبب في حالة من السخط العام بين السكان، وبالفعل أعلن السكان حالة من الإضراب العام، وأوقفوا التعليم في الأزهر، وأغلقت الأسواق والمتاجر، وكان رد خورشيد باشا هو استعراض القوة العسكرية للجنود الدلهيين، ولكن الجميع في انتظار إشارة إلقاء خورشيد باشا إلى الجحيم.

ولتهدئة الاضطرابات يرسل خورشيد باشا إلى آغا الإنكشارية فيستقبل بإلقاء الحجارة من قبل أهل المدينة، ولكنه يتمكن من الوصول إلى القلعة ويجلس مع الشيوخ الذين يدلون بشروطهم لأول مرة منذ خروج الحملة الفرنسية، ويكون أول شرط هو خروج الدلهيين من البلاد في ظرف 3 أيام، أما محمد على في هذه اللحظة، فإنه أعلن بكل صراحة وقوفه إلى جانب العلماء.

وفي ليلة 13 من شهر مايو من العام 1805م، يلجأ القضاة والشيوخ إلى منزل محمد على، ويقولون له: "فاض الكيل نريد أن نخلع نائب الملك، وبالنظر إلى الكرم والعدل اللذين أظهرتهما أعمالكم نحو الشعب المصري، فإننا لا نفكر في غيركم.. ستكونون الحاكم وسنخضع لشروطكم"، ولكن محمد استقبل الأمر بخجل شديد وحاول التعفف عن المنصب.

وعندما علم خورشيد بالخبر قال في استعلاء كبير: "لقد عُيّنت من قبل السلطان ولن يعزلني الفلاحون".
لم يحرّك محمد على ساكنًا، بل ترك الأمر برمته إلى العلماء، وبدأ الشعب في التسلح لمواجهة جنود الوالي بعد أن علم خبر رفض خورشيد باشا التخلي عن السلطة، وأصبح تنصيب محمد على أملًا ينتظره الجميع.

ويكتب "دروفيتي" إلى فرنسا: "القاهرة تعرف الحماسة نفسها التي سادت فرنسا في اللحظات الأولى للثورة".

وفي هذه الأثناء تعهد محمد على للعلماء بأن يحكم بالعدل، واحترام حقوق الشعب، وألا يأخذ أي قرار دون العودة إلى العلماء، ويزيد الأمر بأن يطلب من العلماء وفقهاء القانون، في حال عدم التزامه بالوعود، يحق لهم أن يعزلوه.

كان الصراع قد وصل إلى مرحلة الا رجعة، فمن ناحية كان الفقراء والمعدمون يواصلون بيع ثيابهم ومستلزمات بيتهم الضرورية في مقابل شراء الأسلحة، لمواجهة جنود خورشيد باشا، الذي رفض التنازل عن الحكم، ومن ناحية أخرى كان عمر مكرم يتجول في الحواري والأزقة لتحفيز الناس.

تعامل المواطن البسيط مع الأمر على أنه أخيرًا توحدت الجهود للتخلص من الاحتلال العثماني، وأن تعيين محمد على أمر في يد الشعب المصري وحده.

بعد الاحتلال الفارسي واليوناني والروماني والعربي، أصبح للمصريين كلمة وسيادة حقيقية على أرضهم، ولكن هناك صراع آخر يدور في غرف مغلقة وخلف الكواليس لا يعلم عنه المواطن المصري شيئًا، كان يدور الصراع بين القوى الاستعمارية على تقسيم الكعكة، حيث علمت كل من فرنسا وإنجلترا بحقيقة ما يدور في الشارع المصري.

وطلبت إنجلترا من محمد الألفي تحسين علاقته مع محمد على، حتى يتم تعيينه كشيخ بلد، لأن الألفي بالنسبة لنجلترا في ذلك التوقيت هو حصان طروادة الذي من خلاله يمكنها اختراق السيادة المصرية.
ومن ناحية كتب "دروفيتي" موصيًا بعد التدخل بين الطرفين حتى يعلموا موقف "الباب العالي" من الخطاب الذي أرسله العلماء وفقهاء يطالبون فيه بتعيين محمد على واليًا على مصر.

وعلمت فرنسا بطلب انجلترا من محمد الألفي أن يحسن العلاقة مع محمد على وقلقت منه كثيرًا، لأن خروج الألفي من العاصمة كان يعد انتصارًا لها، وإذا قبل محمد على بهذه المصالحة فإن انجلترا سوف تكسب نفوذًا في مصر لن تستطيع فرنسا مجابهته.

واستمرت الثورة المصرية على خورشيد باشا لمدة شهر، ورفض الجنود الألبان التدخل في المعركة ضد خورشيد؛ لأنهم لم يتحصلوا على رواتبهم، ولكن حل الشعب المصري رجالًا ونساءً وأطفالًا بديلًا عنهم.
انتظر محمد على ثمار رسالة العلماء إلى «الباب العالي»، وفي 18 يونيو من عام 1805، يرسل "الباب العالي" صلاح باي لتقييم الوضع في العاصمة، والنظر في الإبقاء على خورشيد باشا أو تعيين محمد على باشا لباشوية القاهرة.

ولما رفض خورشيد أي اتفاق؛ فإن الوضع قد ازداد سوءًا، فأرسل "الباب العالي" "كوتشوك إمبروخور" -الفارس الثاني- إلى مصر بفرمان، جاء –حسب الجبرتي– نصه كالتالي:
"إلى محمد على والي جدة سابقًا ووالي مصر منذ العشرين من شهر ربيع الأول، يوافق الباب العالي على اختيار العلماء لشخص محمد على، ويعلن أحمد خورشيد مقالًا من مهامه، وإلى ذلك يتعين عليه السفر إلى الإسكندرية مع كل الاحترام الواجب له، وهناك عليه انتظار التعليمات التي ستوجه له، وتعيينه في حكومة أخرى".

لم يبالِ الشعب المصري بالتغييرات التي حدثت، وواصل قتاله من أجل جلاء كل القوات العثمانية عن البلاد، باختصار كان الشعب يريد استقلاله.

إلا أن العلماء قد رأوا أن الثورة التي اندلعت في البلاد قد تمثل خطورة على الامتيازات التي يتمتعون بها، فقرّروا وأد أي محاولة لاستمرار الثورة المصرية التي تنادي باستقلال البلاد عن الدولة العثمانية، لأنهم ظنوا في لحظة ما أنهم يستطيعون إقالة محمد على من الحكم، أما الوجهاء والتجار منهم فكان كل ما يتمنونه هو عودة الاستقرار والأمن وحرية مرور القوافل.

ولما وجد خورشيد باشا أنه فقد دعم السلطان وضع بعض الشروط، والتي كان أهمها ألا يرغم على تقديم أي كشف عن حساب المالية، وأن تدفع قيمة 500 بورصة إلى جنوده كرواتب متأخرة، وفي السابع من شهر أغسطس يصعد الوالي المخلوع على ظهر سفينة برفقة أسرته متوجهًا إلى الإسكندرية.
ويكتب ورقة بخط يده تركها ساعة سفره: "أترك خلفي رجلًا سيصير أكبر متمرد في الإمبراطورية، لم يكن سلاطيننا قط في يوم من الأيام بمثل حيلة هذا الرجل المتقد النشاط".

ويشرع محمد على في مهمامه على رأس الحكومة المصرية، والتي سيبقى على رأسها لمدة 44 سنة متتالية.

اتبع محمد على مع الباب العالي سياسة عدم المعارضة في كل شيء، والخضوع لكل الأوامر ولكن بشكل صوري، فتارة يقبل بولاية جدة، ولكنه لا يذهب لاستلام الحكم، وأخرى يرشي بعثة السلطان التي جاءت إلى مصر بقيادة القبطان باشا بستة آلاف بورصة، وابنه إبراهيم رهينة.

والسبب في ذلك أن محمد على كان علم بكل ما يجري في اسطنبول، مقر الباب العالي، ويقينه بأن السلطان سليم الثالث أمامه أيام ويعزل أو يقتل أو ينفى في السجن كمن سبقوه في السلطنة، لأن الأزمة التي يعيشها السلطان في أواخر عام 1806 مع الانكشارية على وشك النهاية.

وفي المقابل كانت رؤية السلطان سليم الثالث محدودة وقصيرة، لأنه غارق في الأزمات، حيث بدأت أزماته مع الانكشارية فور إعلانه إصلاح الجبهة العسكرية، بعد قلاقل البلقان، حيث حدثت فتنة كبيرة في بلاد الصرب –صربيا- سببها وقوع ظلم الانكشارية على أهلها، فعهد السلطان سليم لوالي بلجراد بمحاربة الانكشارية ومجازاة الظالمين، وبالفعل نجح الوالي في طرد الانكشارية من بلاد الصرب ورفع ظلمهم، فطلبت العساكر الانكشارية العفو، فعفا السلطان عنهم وسمح لهم بالعودة إلى صربيا مجددًا.
وما إن عاد الانكشارية إلى بلاد الصرب حتى عادوا إلى الظلم والإفساد، وزاد بهم الأمر حتى قتلوا والي بلجراد نفسه، فأمر الخليفة والي البوسنة بمساعدة الشعب الصربي للقضاء على هذه الفئة الباغية، فتحالف مع من ثار من الصرب حتى تمكن من إقصاء الانكشارية نهائيًا عن صربيا.

كما توفي مفتي الدولة العثمانية الذي كان من أشدّ المعضدين لإصلاح المؤسسة العسكرية حتى يتم تطهيرها من الانكشارية، فخلفه رجل كان على عكسه تمامًا فاتحد مع مجموعة من العلماء والجهال والمنتفعين من رجال الدولة لعزل السلطان، فراحوا يحرّضون شبان الانكشارية في السلك العسكري الجديد، ضد السلطان، متحججين بأن الملابس النظامية الجديدة لفرقة المشاة التي أسسها الشاب كوشيك حسين باشا للتخلص من الانكشارية، هي أزياء خاصة بالنصارى مخالفة للقرآن الكريم والسنة.

وبالفعل لاقت سمومهم رواجًا عند الجهال والمنتفعين، وحصلت فتن عديدة في كثير قلاع الدولة، لم يدرِ سليم الثالث عنها إلا متأخرًا بسبب قيام «القائم مقام» بتعتيم الصورة عليه.

هذا كان السبب في السياسة التي اتبعها محمد على مع القبطان باشا، ورشوته بستة آلاف بورصة ولم يدفعها، وأن يرهن ابنه إبراهيم باشا ولم يرسله.

عام 1807.. ابن كفالا يضع قدميه على طريق المجد:
لم تحل مشارف شهر يناير عام 1807، إلا وساعده القدر في التخلص من عدويه اللدودين، عثمان البرديسي، ومحمد الألفي باي، فالأول يموت فجأة بسبب الحمى الصفراء، وفي 27 من الشهر نفسه يموت الألفي بدوره.

ويرسل دروفيتي إلى تاليران رسالة عاجلة: "أتشرّف أن أعلن لمعاليكم على وجه السرعة، نبأ وفاة الألفي باي في السابع والعشرين من شهر يناير عام 1807، وهناك رأيان لدى أتباعه، فهناك من يرجع ذلك إلى نوبة غضب حادة ألمت به، وجعلته يهوي بعصا غليظة على رءوس أربعة رجال من البدو بينهم شيخ القبيلة، وفي حين يدعي بعضهم أن التقيؤات والتشنجات العصبية التي توفي على إثرها كانت نتيجة سم دسته له ابنة الشيخ الذي قتله، وقبل موته اختار شاهيم خليفة له".

سمع محمد على خبر موت عدوه اللدود محمد الألفي باي، ولكنه لم يصدق كونه متشككًا دائمًا، وشعر أن الخبر ما هو إلا مناورة عسكرية، فحجز عنده حامل الخبر لمدة أربع أيام متتالية، وهدده بقطع رأسه، إذا كان الخبر كذبًا، ولكنه فور ما تأكد من صدق الخبر، فرح فرحًا شديدًا؛ لأن الألفي كان أخطر من البرديسي، كونه مدعومًا من إنجلترا.

وكان محمد على قال في الألفي -حسب الجبرتي-: "لن أنعم بالسلام مادام الألفي حيًا، نحن نشبه راقصين على حبل مشدود مع اختلاف أن له عكازين في رجليه".
أما محمد الألفي فقال همسًا قبل أن يسلم روحه: "كل شيء انتهى، من الآن فصاعدًا ستصير مصر لمحمد على، لا أحد سيملك القوة للوقوف في وجهه".
والآن يستطيع محمد على أن يهنأ بالسلام لأن رحيل أكثر أعدائه شراسة بينهما أسابيع قليلة، أعطاه دفعة معنوية قوية جعلته يتولى قيادة جيشه بنفسه إلى مصر العليا.. ونجح أن يؤمّن ممر التجارة بداية من أسيوط بعد أن سقطت في يده في شهر مارس من العام نفسه.
ويبدأ محمد على عام 1807 في بناء مصر الحديثة التي تحولت إلى دولة قوية في عهدة نازعت القوى الاستعمارية على أراضي الشعوب.