الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

علم النفس والاقتصاد (1-2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تمثل الثقة أحد المكونات الأساسية لرأس المال الاجتماعي، فبدونها لا يستطيع أي طرف أن يضمن التزام الطرف الآخر بالتزاماته في أي اتفاق يتعلق بكافة المعاملات سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو مؤسسية. والثقة المقصودة هنا هي الثقة باعتبارها قيمة اجتماعية وثقافية موجودة في المجتمع وهي تختلف عن الخوف من العقوبات التي سيتعرض لها الشخص في حالة عدم التزامه بالاتفاقات.
ويتم هنا التمييز بين الالتزام والإلزام؛ فالالتزام يكون طوعيا ومصدره داخلي من قيم الفرد نفسه التي ترسخت لديه من منظومة قيم المجتمع الذي ينتمي إليه دون إجبار، أما الإلزام فيكون مصدره الإجبار من خارج الفرد عن طريق الجماعة أو عن طريق القانون.
وكان فرانسيس فوكوياما -المفكر الأمريكي الياباني الأصل- قد أرجع التفوق الاقتصادي الياباني إلى عنصر الثقة الذي يؤدى إلى سرعة إتمام الاتفاقات وتوفير جزء من الوقت الذي يضيع في الكثير من الإجراءات، وكذلك المال الذي ينفق على مكاتب المحاماة، كما أرجع ضخامة حجم الاقتصاد الأمريكي إلى اعتماد الأمريكيين بشكل واسع على الجمعيات والمنظمات والشبكات مما يؤدى إلى فاعلية كبيرة، وكلها لا يمكن أن تقوم إلا في وجود درجة عالية من الثقة في الآخرين وفي المجتمع بوجه عام. وفي المقابل يرى فوكوياما أن الإمكانات الضخمة للاقتصاد الصيني كانت يمكن أن تصل به إلى آفاق أكبر لولا ضعف عنصر الثقة لدى الصينيين التقليديين الذين لا يزال قطاع منهم يقصر نطاق ثقته على الأقارب ومن يعرفهم منذ فترات زمنية طويلة.
وبدون الثقة يمكن أن تتعثر أو تتأخر الكثير من التعاملات، وبالتالي يتأثر المجتمع في جميع النواحي ويقل إحساس الأفراد بالانتماء إلي مجتمعهم. وترجع الثقة إلى شيوع الالتزام في المؤسسات والأفراد، بمعنى أن الثقة ترتبط بالخبرات السابقة ونتيجة السلوكيات السابقة لهذه الجهات والمؤسسات، فمدى التزامها في السابق هو الذي يحدد درجة ثقة الأفراد والمؤسسات الأخرى بها، وهو ما يوفر الكثير من الجهود والأموال الضائعة بسبب التردد في اتخاذ القرارات وكذلك في المبالغة في الأنشطة المتعلقة بالرقابة والمحاسبة.
إن المشكلة الأساسية في العلاقة المفقودة بين الدولة والشعب هي انعدام الثقة ما بين الطرفين؛ إذ اعتاد الطرف الأول أن يتعامل مع الطرف الثاني بريبة نظرا لتركيز الدولة تقليديا وحرصها الدائم على الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي قد يصل أحيانا إلى حد الجمود. أما الشعوب ومنظمات المجتمع المدني العربية فإنها محملة بتراث تاريخي طويل يرتبط بنكوص الحكومات عن الالتزام بوعودها، ومن هنا فإن استعادة الثقة المتبادلة بين الطرفين يحتاج إلى بعض الوقت والممارسة المشتركة على أسس جديدة لبناء الثقة من جديد.
وينعكس الشك ذاته على مجال البيانات والمعلومات خاصة الرسمية منها، ومما يفاقم من الأمر تباين البيانات والمعلومات ذاتها بين المصدر الرسمي وبعض المصادر الدولية التي تتمتع بدرجة عالية من المصداقية، أو بين المصادر الرسمية بعضها بعضا في البلد الواحد. ويتحدث البعض عن أهمية قوانين إتاحة المعلومات ويتصورون أن وجود هذا القانون يعنى تلقائيا تحقيق الشفافية التي هي من أهم شروط الإصلاح. ولكن وجود القانون في حد ذاته ليس هو الحل النهائي لهذا النوع من المشكلات، فالمهم هو الثقة في أن القانون سوف ينفذ حين صدوره وأنه ستكون هناك إجراءات تنفيذية وعقوبات واضحة تلزم الجهات بتوفير المعلومات باعتبارها من الحقوق الأصيلة للمجتمع وللفرد.
فالحكومات أو المؤسسات المختلفة تعلن المعلومات والبيانات بالفعل، ولكن إلى أي درجة يثق المواطنون في هذه المعلومات والبيانات التي يتم توفيرها؟ ومن ناحية أخرى فإن توفر المعلومات سيساعد على تكريس قيمة الشفافية وإدخال مفهوم تقييم الأداء وعملية المتابعة والتقييم وهي عناصر أساسية في مفهوم الحوكمة أو الحكم الجيد. وفي المقابل لو وجدنا أن المؤسسات، سواء كان القانون موجودا أو غير موجود، لديها الإحساس بأنها ليست عرضة للمساءلة، فإن درجة الثقة الموجودة بين الأطراف سوف تقل، وسيحاول كل طرف أن يحقق الأهداف التي يسعى إليها، وهنا سوف تزيد درجة الفساد في المجتمع.
استوقف نظري أن قائمة الحاصلين علي جائزة نوبل - رغم أن علم النفس لا يدخل ضمن تخصصاتها المعتمدة - قد ضمت اثنين من علماء النفس، في عامي 1987، 2002 و لكنهما ولجا إلي الجائزة من خلال بوابة تخصص علمي آخر هو علم الاقتصاد حيث أنجزا بحوثهما في مجال "علم النفس الاقتصادي" و هو مجال شبيه من الناحية المنهجية بعدد من فروع علم النفس الحديثة التي تتشارك مع غيرها من التخصصات العلمية مثل "علم النفس السياسي" الذي يجمع بين علم النفس و علم السياسة ضمن باقة تضم عددا من أصحاب التخصصات المختلفة.
وعلم النفس الاقتصادي هو ذلك الفرع من فروع علم النفس الذي يدرس الآليات النفسية التي تحكم السلوك الاستهلاكي وغيره من أنواع السلوك الاقتصادي؛ كما يهتم بدراسة التفضيلات والاختيارات والقرارات والعوامل المؤثرة في هذا المجال، وتحليل العديد من أنماط السلوك الاقتصادي الجمعي بدءا من المستوي الأسري إلي المستوي القومي، وكذلك ارتباط السلوك الاقتصادي بظواهر التضخم والبطالة ونظام الضرائب والتنمية الاقتصادية"، وتأثير اتخاذ قرارات اقتصادية معينة علي السلوك البشري وعلى نوعية الحياة.