الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

المتبصرة.. قصة قصيرة لـ"رباب كساب"

رباب كساب
رباب كساب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت جلستنا هذه المرة بلا أحد، اقترحت عليِّ أن تقرأ فنجاني، أحب هذا الطقس معها، أحب أن أجلس وعلى قدمي صينية القهوة أصنعها بهدوء وترقب، أرشف أول رشفاتي لأتأكد من مدى مهارتي، مرات وددت أن يكون هذا الطقس إلى جوار النيل شريكي الجميل، الكلمة التي لا تهرب مني بل تسكنني، الحضن الذي يحتويني بلا سؤال، شجرة حور على ضفافه وإياس قديم نجلس عليه، طبق جبن قديمة وأعواد من السريس، يا له من حلم!
صديقتي تقلب الفنجان بين يديها، تتقلب ملامحها معه، الفضول يقلبني على ضفافه، لا أتعجلها، هي لا تحب أن يتعجلها أحد، تتحدث وقتما تشاء وقد تصمت وتقلب الفنجان ولا تتحدث، ثم تعود وتمسك به وتنطلق وقد لا تنطلق !
في خلفية حديثها كانت موسيقى التانجو والفالس تملأ جو المكان، لا أعرف لماذا رأيتني وهي كما غجرياتان في قلب الصحراء، حافيتان، بشعر طويل يصل لأردافنا، وجونلات واسعة كجونلات المكسيكيات، كنت أربط رأسي بمنديل صغير يفر شعري من تحته كالليل حين يودع الشمس ويستقر بلا قمر ولا نجوم، كانت هي في تلك اللحظة التي باحت فيها بمكنون فنجاني كعرافة هندية، سمعت حينها الناس تناديها باسم من أسمائهم ( المتبصرة بالأمور) عيناها ضيقتان يكادا يختفيان وهي تدقق في جدران سري الذي وهبته لمشروبي المفضل.
الصحراء التي ضمتنا بعيدة عن نيلي وخضار الحور والصفصاف، نباتات الصبار المتناثرة هنا وهناك كأسنان في فم نخر السوس فيه فأخذ بلا هوادة، كنت ألعب في الرمال بينما المتبصرة بالأمور تبصر غدي، اكتسى وجهها بصفرة غريبة كأن لون الرمل انعكس عليها، فتحت حقيبتها القماش وأخرجت أوراق كوتشينة قديمة متهرئة فردتها أمامها بينما الفنجان لم يزل بين أصابع يسراها، لملمني الفضول ونثرني على صفحة تلك الصحراء الشاسعة فاشتقت لخضار حقول قريتي، تعلمت في حضرتها الصمت وإن كنت أرقص على نغمات التانجو التي تمنحني حياة لا يعرفها سواي، لملمت المتبصرة بالأمور أوراقها وهي تقول: صبارك أقوى من صفصافتك!!
تركتني أخرج من عندها بلا كلمة زائدة، صمتت الموسيقى واكتفيت أنا أيضا بالصمت، تلقتني زحمة المدينة، وصفحة النهر الرائقة لم تعكس صورتي هذه المرة، احتضنني في صمت، بينما تساقطت بين يدي أوراق الحور!