الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

كيف سقطت ليبيا فى "قبضة الإخوان"؟

لأول مرة.. الإجابة الكاملة عن السؤال الصعب

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الصورة غائمة، ما في ذلك شك... لا أحد يعرف على وجه التحديد ما الذي يجرى هناك، حتى الذين سافروا مخاطرين بحياتهم، عادوا وهم يحملون على ظهورهم علامات استفهام ثقيلة لا تريد أن تغادرهم، فكيف لمن دخل الجحيم بقدميه أن يعرف من أين تأتيه النار.
في الوقت الذي كان الـ21 مصريا قى مواجهة الموت على يد شياطين داعش في سرت، كانت المطابع في القاهرة تلقى في وجوهنا عن دار كنوز للنشر بكتاب «حروب الميليشيات... ليبيا ما بعد القذافى»... يناقش فيه مؤلفه الزميل الكاتب الصحفى عبدالستار حتيتة واقع ومستقبل الجماعات الإرهابية في ليبيا. الكتاب في اعتقادى يأتى في وقته تماما، على الأقل حتى نفهم ما الذي يجرى هناك، من هؤلاء الملثمون الذين يصدرون لنا العنف والإرهاب والدم والحزن... كيف خرجت كل جيوش الظلام من كهوفها، لتقف أمامنا متحدية وعنيدة، وراغبة في القتل والفتك بكل من يعارضها، أو لا يرضى بما تعتنقه.
كل ما سأفعله هنا أننى سأقرأ معكم الكتاب، لكنه في أي حال لن يغنى عن قراءته الكاملة، فهو يأخذك من راحتك وفراشك الدافئ، لتواجه على الطبيعة الجحيم الأرضى في أرض ليبيا، وهو جحيم لا مكان فيه للرحمة، ولا أمل في الخروج منه.
لم يكتب عبدالستار حتيتة، وهو صحفى مهم في ملفه وكاتب متميز في جريدة الشرق الأوسط، وهو جالس وراء شاشة الكمبيوتر، لم يطلق لخياله العنان، فيختلق لنا أحداثًا حتى يقنعنا أن الخطر قادم، لقد دخل الجحيم بقدميه، وهو يعرف أنه يمكن ألا يعود، ولذلك تأتى أهمية ما كتبه وخطورته أيضا، وهو ما يجعلنى أتعامل مع هذا الكتاب على أنه أدب رحلات... حتى لو كانت الرحلة إلى جهنم. يقولون إننا يجب أن ندخل البيوت من أبوابها، وهنا دعونا ندخل الكتاب من مقدمته، ففيها بيان شاف لما خلف الأبواب المغلقة.
هيمن تيار «الإسلام السياسي» على حكم ليبيا عامى ٢٠١٢ و٢٠١٣، وبدلًا من أن يسارع ببناء الدولة، من جيش وشرطة ومؤسسات، قام بسلوك طريق آخر شديد الخطورة، باعتماده على المجموعات المسلحة والمتشددة في محاولة بسط الأمن في البلاد، مقابل إعطاء تلك المجموعات الميليشياوية الشرعية والأموال.وعندما اقتربت المدة القانونية للمؤتمر الوطنى العام من الانتهاء، شعر النواب الإسلاميون بأن الشارع الليبى والناخبين أصبحوا ضد استمرارهم في إدارة الدولة، ولهذا أخذوا يماطلون في إجراء الانتخابات الجديدة، وأدى الحراك الشعبى في طرابلس وبنغازى وغيرهما من المدن إلى الضغط من أجل إجراء الانتخابات التي جرى إنجازها بالفعل، ليخسر النواب الإسلاميون الأغلبية في البرلمان الجديد.
وهنا بدأت المجابهة السافرة بين ثلاثة أنواع من الخصوم الليبيين، الأول والثانى يشملان شركاء ما يعرف بـ«ثورة ١٧ فبراير»، والثالث أنصار القذافى، واشتعلت المعركة بين فريقين «شركاء فبراير»، المتطرفين بقيادة «الإخوان»..والمدنيين بقيادة الجيش والبرلمان الجديد، بينما ظل أنصار القذافى، الخصم الثالث، يراقبون الموقف، ويتحركون بخطوات محسوبة انتظارًا للحظة التدخل المباشر.
■ ■ ■
«فجر ليبيا»
تشكلت هذه القوة بناء على تركيبة جهوية تخص قبائل مدينة مصراتة التي تضررت من محاولات قبائل الزنتان الواقعة إلى الجنوب الغربى من طرابلس السيطرة على العاصمة، وكانت ميليشيات مصراتة تهيمن على الجانب الشرقى من العاصمة وميليشيات الزنتان على الجانب الغربى بما فيه المطار الدولي.
وبناء على اتفاق عقد في الربع الأول من ٢٠١٤، كان يفترض أن ينسحب الفريقان من العاصمة، لكن وقع خلاف على تنفيذ الاتفاق، وعليه قررت مصراتة طرد الزنتان بالقوة من طرابلس، وهنا دخل المتطرفون خاصة قادة جماعة الإخوان على الخط، وتولوا قيادة «فجر ليبيا» وحولوا المعركة من مجرد معركة صغيرة مع الزنتان بشأن الانسحاب من العاصمة، إلى معركة عسكرية جهوية مذهبية سياسية، في عموم البلاد.
وتمكن قادة المتطرفين من توفير الأموال والسلاح وضم المتشددين تحت لواء «فجر ليبيا»، ودخلت تحت مظلتها ميليشيات إسلامية بعضها موال لتنظيم القاعدة، والبعض الآخر لتنظيم داعش، وانتشر مناصروها في عدة مدن قريبة من العاصمة، وفى بنغازى أيضا تحت اسم «مجلس ثوار بنغازى». وأصبحت تنخرط في «فجر ليبيا» ميليشيات «الدروع» الإخوانية بالأساس، و«غرفة ثوار طرابلس» التابعة للجماعة الليبية المقاتلة وقادة من التكفيريين.
وتمتلك جماعة الإخوان في ليبيا آلة إعلامية ضخمة، تمكنت بها من تشتيت فكر المراقبين منذ الإطاحة بحكم القذافى حتى الآن، ومنذ خسارتهم للأغلبية في البرلمان الجديد، وهم يحاولون إرباك المشهد، لكن أهم سلاح في أيدى هذه الجماعة ليس فقط الآليات العسكرية، ولكنه «سلاح الكلام» و«البيانات المضللة»، لدرجة أن غالبية وسائل الإعلام العربية والمصرية والليبية المعادية لفكر الجماعة، أصبحت دون أن تدرى تردد على الشاشات وعناوين الصحف وجهة نظرها.
ولأن الوضع الليبى معقد، بل شديد التعقيد، لا بد من تبسيط الأمر في جبهتين، الأولى هي تلك المعروفة باسم «الفبراريون» والمقصود بهم التيارات التي قادت الثورة ضد القذافى، وهم خليط من القوميين واليساريين والليبراليين والمستقلين والإسلاميين، أما الثانية ويطلق عليها «السبتمبريون»، نسبة لثورة القذافى سنة ١٩٦٩، فتتكون من القادة السابقين في نظام العقيد الراحل وأنصارهم من القبائل وقطاع من عامة الشعب، وهذا الفريق الأخير ما زال خارج دائرة الصراع الجارية الآن إلى حد كبير. إذن المعركة حتى الآن تنحصر بين شركاء فبراير، فبعد مقتل القذافى تقدم «الفبراريون» لتولى السلطة، لكن الإسلاميين بقيادة الإخوان سارعوا بإقصاء رفاق الأمس وهيمنوا على الحكم من خلال البرلمان السابق، ومن خلال هذه السلطة التي استمرت عامين عرقلوا تأسيس جيش وشرطة يتوليان حماية البلاد، وعززوا بدلًا من ذلك من نفوذ الميليشيات ومنحوها الأسلحة والرواتب الضخمة وسنوا قانون العزل السياسي لتصفية شركائهم في الثورة، حتى وصل الأمر إلى هروب عشرات القيادات للخارج واغتيال مئات من ضباط وضباط الصف وجنود الجيش. وحين انتهت المدة القانونية لعمل البرلمان السابق، حاول قادة الإخوان المماطلة في إجراء انتخابات جديدة بعد شعورهم بتغير مزاج الناخبين تجاههم لكن الضغط الشعبى (حركة لا للتمديد) أجبرت الجماعة على الرضوخ للانتخابات فخسرتها، وهنا بدأت في نشر الفوضى عن طريق غزو ميليشياتها لبعض المدن.
■ ■ ■
«أنصار الشريعة»
في المكان الأخطر، وهو منطقة جنوب مدينة درنة، كانت توجد ثلاث مزارع كبيرة لتربية الدواجن، وكان علم تنظيم القاعدة الأسود يرفرف على اثنتين منها، كما يرفرف على عشرات المنشآت التي احتلتها عناصر من تنظيم «أنصار الشريعة» المتطرف في مناطق الوديان الجنوبية للمدينة الواقعة على البحر المتوسط.
ومع بداية عملية حفتر، وانضمام الكثير من تشكيلات الجيش إليه، ومع وجود زخم شعبى مؤيد للواء المتقاعد، أخذت المجموعات الجهادية في كل من درنة وبنغازى، تغير من تكتيكاتها لتتحاشى ضربات الطيران، وهجمات صواريخ «عملية الكرامة»، وبدأت «أنصار الشريعة» ومن معها من جماعات أخرى، تطوى إعلامها السوداء، وتبتعد عن الظهور العلنى بالقرب من درنة، وتمضى وقتًا طويلًا داخل الوديان التي سبق أن تحصنت فيها عناصر «الجماعة الليبية المقاتلة» في عام ١٩٩٥، وذلك حين دخلت في مواجهات مع قوات القذافى.
ومن العناصر الخطرة في درنة المعتقل السابق في جوانتانامو «بن جومة»، الذي عاد بعد إفراج الولايات المتحدة عنه لينخرط مع ثورة «فبراير». وبدا تحديه لحفتر منذ البداية لافتًا للانتباه، ووقتها كان سكان درنة يقولون إنه فلسطينى الأصل، وإن كان يعيش هناك منعزلًا عن سكان المدينة منذ عدة عقود، ويقيم أنصاره في غابات درنة وبينهم مصريون وتونسيون وجزائريون، وهم مسلحون بأسلحة خفيفة ومتوسطة، ولديهم قاذفات صاروخية يمكن أن تستهدف الطائرات المنخفضة. كما يمتلكون نحو ألف سيارة على الأقل من سيارات الدفع الرباعى المجهزة، وهم يشبهون «داعش» في تحركاتهم وعملهم ومحاكماتهم وقرارات التصفية الجسدية لخصومهم، ومما أسهم في تأييد عملية حفتر خاصة من القطاعات الشبابية، ظهور أمراء الحرب ممن أثروا سريعًا، بسبب الفوضى الأمنية، ومع انطلاق عملياته، نزع قادة تنظيم «أنصار الشريعة»، ومن معهم من جماعات وكتائب وميليشيات جهادية، الإعلام السوداء، تجنبًا للقصف. وبعد نحو شهر من عملية حفتر، كان تنظيم «أنصار الشريعة» في بنغازى قد تخلى عن اثنين من معسكراته الرئيسية، وبينما كان معسكره الثالث الموجود ناحية منطقة قار يونس، يتعرض للقصف من حفتر، تمكن المعسكران الآخران من تفكيك نفسيهما سريعًا، والفرار بسيارات الدفع الرباعى وبعض الآليات العسكرية والمعدات الحربية من أسلحة وعتاد، والاختباء بها داخل المزارع المنتشرة في مناطق تشكل ما يشبه الهلال حول بنغازى من ناحية الجنوب إلى الشمال الغربى، وهذه المناطق هي: «القوارشة» و«الهوارى» و«سيدى فرج». في ذلك الوقت، بدأ أمراء الحرب عقد التحالفات واستئجار المزارع الجديدة وتخزين الأسلحة، استعدادا لحرب طويلة، لكن خسارة الإسلاميين غالبية مقاعد البرلمان، كانت تؤشر على أنه سيسهم في رفع الغطاء السياسي والقانونى عن هذه الجماعات، خاصة أن المجالس القبلية التي ما زالت تتأرجح في تأييد حفتر من عدمه، تسعى لسحب أبنائها من الكتائب والميليشيات الموالية للإسلاميين، ويجرى التفكير في ضم هؤلاء إلى «مجلس عسكري عام» تابع للقبائل، أو الوصول لصيغة يجرى بها إلحاق هذه العناصر في جيش «عملية الكرامة».
■ ■ ■
«تحالف الميليشيات»
منذ مطلع عام ٢٠١٤ بدأ أن هناك نوعين من الميليشيات التي ستخوض صراعا للسيطرة على العاصمة، وكانا يعرفان باسم «ميليشيات مصراتة» و«ميليشيات الزنتان»، لكن هناك فروق جوهرية بينهما سواء في التكوين أو في التوجهات، لذا يقول على ناجى، الضابط السابق في الاستخبارات الليبية: إنه بالنسبة لميليشيات مصراتة فيهيمن على قياداتها شخصيات ترجع أصولها إلى مدينة مصراتة، وهى متحالفة مع المتطرفين والتكفيريين والإخوان، وكانت لها حظوة كبيرة لدى البرلمان السابق والحكومات السابقة، وجرت الاستعانة بهذه الميليشيات في اقتحام مدينة بنى وليد التي تسكنها قبيلة «ورفلة» الشهيرة، وذلك بأوامر من البرلمان السابق، وكذا الاستعانة بها في إخضاع مناطق في سبها في جنوب البلاد كانت تعارض الحكومة، وفى مناطق أخرى في بنغازى وحول طرابلس.ولم تكن ميليشيات مصراتة قد تحولت إلى قوات «فجر ليبيا» المعروفة هذه الأيام، بل كانت تتكون من عدة ميليشيات للمتطرفين قادمة من عدة مدن مجاورة لمصراتة، إضافة لمجموعة ما يسمى بـ«غرفة ثوار طرابلس»، وهى خليط من المتشددين أيضا، بينهم عناصر من «الجماعة الليبية المقاتلة»، إلى جانب ميليشيات الدروع التي كان يقودها الميكانيكى وسام بن حميد، الذي كان يقيم في بنغازى، بينما ترجع أصوله لمصراتة، وحين بدأت علمية الكرامة بقيادة حفتر، أصبحت ميليشيات مصراتة تحظى بتأييد من باقى الجماعات المتطرفة والجماعات الجهادية في عموم البلاد، ومنها «أنصار الشريعة» في كل من بنغازى ودرنة. وحظيت ميليشيات في ذلك الوقت أيضا بدعم قوى من مخزون المتطرفين في مدينة سرت، التي شهدت مقتل القذافى، حيث كانت المدينة قد تحولت طيلة السنوات الثلاث اللاحقة إلى معقل للمتشددين من ليبيا والجزائر وتونس ومالى والنيجر، إضافة إلى عصابات من قطاع الطرق واللصوص الذين يعملون بحرية ويستخدمون الأسلحة في نصب الكمائن وتوقيف الضحايا، وطلب الأموال من الأثرياء، وتصفية الخصوم بمقابل مادي. ولا يوجد من الإسلاميين خارج تحالف المتطرفين، سوى الجماعة السلفية ذات الأغلبية العددية، إلا أنها جماعة لا تجنح على ما يبدو إلى القتال في ظل الفوضى الجارية في البلاد، رغم تعرض أبرز تنظيماتها المعروفة باسم «كتيبة سجناء أبو سليم» للهجوم من جانب تنظيم أنصار الشريعة مرتين على الأقل في منتصف ٢٠١٤، مرة في بنغازى والأخرى في درنة، وجرى ذبح عدد من عناصرها، كما يقول أحد مساعدى الشيخ «ف.ش.» زعيم الكتيبة المتخفى في أحد جبال درنة. أما «ميليشيات الزنتان»، وأشهرها كتيبتا «القعقاع والصواعق»، فهى محسوبة على التيار المدنى في الدولة، وأصبحت بعد ذلك محسوبة على قوات «عملية الكرامة» واللواء حفتر، وأغلب قادتها من منطقة الزنتان، وتكونت هاتان الكتيبتان على أنقاض اللواء ٣٢ المعزز الشهير الذي كان يقوده خميس القذافى نجل القذافى في محاولة إحباط الانتفاضة المسلحة المدعومة بقصف «الناتو» ضد حكم والده، ويقول الضابط ناجى: إنه بعد أن بدت المعركة أكثر وضوحا بين طرفين متناقضين، انضمت عدة قبائل إلى ميليشيات الزنتان، خاصة بعض المقاتلين من منطقة ورشانة، وأصبحت تحمل اسم قوات «الجيش الوطنى»، ثم تغير الاسم فيما بعد إلى «جيش القبائل». لكن تظل بنغازى هي أساس الحراك في ليبيا. وتعد نموذجا مصغرا للمجتمع الليبى، إذ يوجد فيها أبناء وعائلات لأكثر من ٢٠٠ قبيلة بمن فيهم ذوو الأصول المصراتية وقبائل «أولاد على»، ولهذا حين تقع فيها أي أحداث تتأثر بها باقى البلاد الليبية، ويقال هنا: «إن فيها الداء والدواء».
من النسخة الورقية