الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من الأخطاء القاتلة لمحلب وحكومته!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هل تريد نموذجاً حياً ناطقاً لغياب السياسة وضعف مستوى كثير من المسئولين السياسيين فى كثير من تفاصيل حياتنا التى ينبغى أن تحكمها السياسة وأن يتجلى فيها للسياسيين دور واضح؟ 
عندك، إذن، موضوع الباعة الجائلين الذين أبرم معهم، فى أغسطس الماضى، المهندس إبراهيم محلب شخصياً اتفاقاً شديد الإغراء بأن تُجهِّز لهم الدولة مكاناً فى أرض وابور الثلج المطلة على ميدان عبد المنعم رياض، مقابل أن يغادروا منطقة وسط البلد التى كانوا احتلوها ببضاعتهم على كل الأرصفة وفى نهر الطريق، منذ فوضى ما بعد ثورة يناير، على أن ينتقلوا إلى أرض الترجمان لفترة مؤقتة، قطع محلب عهداً على نفسه ألا تزيد عن ستة أشهر. وقد التزم الباعة بالجانب الخاص بهم، وغادروا وسط البلد فى 24 أغسطس من العام الماضى، بعد معارك ضارية فيما بينهم اعترض فيها الكثيرون منهم على المغادرة لأنهم لا يثقون فى وعود الحكومة، ولكن انتصرت، فى النهاية، وجهة النظر التى كانت تأمل فى أن تكون الحكومة تغيرت بعد أن شاهدت الشعب يطيح بحكومة الإخوان الكاذبة! ولكن، ها هى المدة تنتهى غداً ولم تفِ الحكومة بوعدها، بل لا يبدو أنها ستفى فى الأشهر القادمة! 
بل إن الشركة المنفذة لم تشرع بجدية فى تجهيز المكان بعد، والعيب ليس فى الشركة، فقد رصدت تقارير صحفية أن الخلافات المعوِّقة للبناء نشأت بين وزارة الاستثمار ومحافظة القاهرة على مسائل مبدئية كان ينبغى حسمها قبل بدء الحوار مع الباعة، وقبل أن يُعرَض عليهم ما قبلوه، خاصة أن التحفظات المستجدة تنصبّ مسائل جوهرية تمسّ أصل المشروع، مثل الجدوى الاقتصادية لبناء مركز تجارى لهؤلاء الباعة الفقراء بأسعار غير اقتصادية، فى حين أن قيمة الأرض باهظة، أى أنها يمكن أن تعود بأرباح أكبر إذا جرى الاستفادة منها بطريقة أخرى، ومثل الخلاف على عدد الوحدات التى ستحصل عليها كل من الوزارة والمحافظة..إلخ
المشكلة الآن تبدو وكأن السيد رئيس وزراء مصر شارك فى عملية خداع الباعة الجائلين، أو كأنه "ضحك عليهم" كما يصفون هم ما حدث! وكأنه لم يكن يهمه إلا إخلاء وسط البلد، دون مراعاة للمعانى الخطيرة التى ينطوى عليها عدم وفاء صاحب المنصب الرفيع بوعده لفئة من المواطنين! كما تغيب تماماً ردود الأفعال التى ستصدر من هؤلاء المخدوعين، والتى كان ينبغى حسابها بدقة! بل وإفشال المشروع الكبير، الذى يتوقف بالكامل على نجاح هذه التجربة، والمتمثل فيما كان يأمل فيه الرأى العام بأن تُعمَّم الفكرة فى عموم البلاد لتُحَل مشكلة الباعة الجائلين التى ما عادت تخلو منها مدينة واحدة على خريطة مصر، بل لقد وصل هذا النشاط السرطانى إلى كثير من القرى!
المعضلة التى يصعب فهمها، هى: هل لم يدرس رئيس الوزراء الاقتراح الذى عرضه على الباعة، والذى صار برضاهم اتفاقاً؟
كان مفهوماً لكل عاقل أن هذا الاتفاق لا يتسق مع الأسس الاقتصادية، وبالرغم من هذا فقد أشاد به الكثيرون لأنه يعالج فى الأساس أزمة خانقة بدت كأنها مستحكمة لا حل لها، كما أنه يضع فى الاعتبار البعد الاجتماعى، والمخاطر الأمنية، وحقوق الدولة المهدرة فى عمليات تهريب البضائع، وعدم الالتزام بالتسجيل ودفع الضرائب على الدخل والمبيعات، وفواتير الكهرباء والمياه، وفى العمل خارج الإطار الرسمى بما يبدد حقوق العمال والتأمينات. كما تطلع الكثيرون إلى فوائد مستقبلية حضارية تتجلى نتائجها فى نظافة البيئة وفى تجميل القاهرة..إلخ، وللأسف، فإنه يبدو أن هذه جميعاً بنود لا يعترف بها الخبراء فى وزارة الاستثمار ومحافظة القاهرة، حيث يعترض بعضهم على أن يُنفق على هذا المشروع ما قدروه بنحو 30 مليون جنيه ثمن أرض وابور الثلج، إضافة إلى تكاليف البناء!
الغريب أن الباعة أدركوا عدم الجدية فى مرحلة مبكرة، عندما اكتشفوا أن العمل فى المشروع قد توقف بعد الخطوة الأولى التى سجلها وأذاعها التليفزيون والتى هُدِم فيها السور المحيط بالأرض، حتى أن مخلفات الهدم ظلت فى كومة دون أن يجرى نقلها ليبدأ العمل الفعلى! وبرغم هذه النُّذُر غير المبشرة إلا أنهم لم يتهوروا فى الرد، وإنما أعلنوا فى الصحف أنهم سينظمون تظاهرة يعترضون فيها على عدم التزام الدولة بالاتفاق، وأكدوا على أنهم سيتقدمون بطلب إلى وزارة الداخلية للحصول على إذن بالتظاهرة حتى لا يتهمهم أحد بالخروج على القانون. وعلى ما فى تصرفهم من نضج وإحساس بالمسئولية، إلا أنه لم يحدث أن تلقوا رداً مطمئناً!
كنت كتب مقالاً العام الماضى عن هذا الموضوع، فى جريدة "التحرير" بعد أيام من إبرام الاتفاق بين المهندس محلب والباعة، بعنوان: "أهم إنجازات محلب.. بلا جدال"، وبعد الإشادة فى العنوان، قلت: "من حق المهندس محلب أن يُشكَر على دوره الشخصى، لأنه لم يترك الأمر للمسئولين المباشرين، وإنما تدخل بنفسه وكان أداؤه واضحاً".
وقلتُ: "لعلّ التزام كل أجهزة الدولة بالاتفاق المبرم هو أهم البنود، ولا فكاك من وجوب إنجاز هذا التعهد فى الموعد المضروب".
وقلت: "إن هذا حافز للحكومة على الاستمرار فى استكمال هذا المشروع الجبار لتجميع كل الباعة فى عموم البلاد فى أماكن شبيهة، مع ضرورة الاهتمام أيضاً بمراجعة الجدوى الاقتصادية لمثل هذه المنشآت، مع الاستفادة من خطأ التسرع فى تخصيص قطعة أرض ثمينة شبيهة بوابور الثلج التى كان يمكن أن تفيد أكثر كمشروع سياحى ضخم"!
كان هذا الكلام قبل عام، أما الآن، وبعد أن جرت الأحداث فى اتجاه مُحبِط يمكن أن تترتب عليه نتائج سيئة، فليس سوى توجيه السؤال للمهندس محلب: كيف لا ترى أن عليك الآن أن تصدر لهؤلاء الناس بياناً تعتذر فيه، أولاً، عن عدم الوفاء بتعهدك الشخصى وبالتزام الدولة، ثم أن تُقدِّم لهم تفسيرات وتبريرات لعدم الإنجاز، ثم أن تتقدم بوعد قاطع بالانتهاء فى تاريخ كذا، الذى تحدده بعد دراسات دقيقة بالسرعة التى تتفق مع أهمية الموضوع؟ 
أم أن المهندس محلب لا يرى أن تركه للأمر هكذا لها آثار هدامة على أعمال مستقبلية كثيرة؟ على الأقل، هل يمكن إقناع أىٍ من الباعة الجائلين فى طول البلاد وعرضها بوعود شبيهة؟ وهل هناك لدى الحكومة خطط عملية أخرى لحل مشكلة هؤلاء الباعة الذين يُقدِّر بعضُ الباحثين أعدادَهم بحوالى 5 ملايين بائع؟ وهل وصلنا إلى ما وصلنا إليه إلا بسبب قِلة السياسيين المهرة وغياب السياسات العملية المدروسة؟