الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عصام فهمي.. الراجل الجدع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ضغطي الملعون تلاعب بي الكرة الأسبوع الماضي "حبة فوق.. وشوية تحت"، لدرجة أن الصداع وضعف التركيز أجبراني على الرضوخ والاستسلام، والانسحاب المؤقت من زحمة الشغل، وتحديد موعد مع الطبيب للمراجعة والاطمئنان على الأسباب التي تقف وراء ارتفاعات الضغط وانخفاضاته المفاجئة، وبالمرة أطمئن على السكر، وأحمي نفسي من فصوله الباردة وتحالفاته مع الضغط والكوليسترول ضدي!
على كرسي الاعتراف أمام الطبيب وهو يستجوبني بالأسئلة التقليدية: "حد زعلك"، "لخبطت في الأكل"، أخبار الملح والمخللات إيه؟ السجاير يا أخي السجاير.. وعدتني إنك تقلل! اكتشفت أنني منذ فترة لا أتناول "حبة الضغط" في الصباح، بمبرر أني "شايف نفسي كويس، ومفيش لزوم لتناول الدواء".
عند هذا الاعتراف.. حدث ما لم أتوقعه، وجدت أمامي في غرفة الكشف صديقي الراحل أ. عصام إسماعيل فهمي، يصرخ في وجهي ويعنفني بشدة وهو يذكرني بنصيحته القديمة لي، بعدم نسيان تناول حبوب الضغط، وإلا سيكون مصيري نفس مصيره، عندما كان في رحلة في قبرص ونسي "شنطة دوائه"، ولم يكتشف إلا بعد أيام، واعتبر عدم تأثره بعدم تعاطي الدواء أكبر دليل على التشخيص الخطأ من الأطباء، ولكن عقابه كان قاسيًا، ضربته أول جلطة في المخ من دون سابق إنذار، وبعدها توالت الجلطات اللعينة والأمراض المزمنة! والزيارات المتكررة لغرفة العناية المركزة. بعد انتهائي من الكشف والتحاليل الكاملة، انصرفت من مركز السكر "إمبريال كوليدج" وأنا أحمل معي كمية دواء تكفيني ثلاثة أشهر، وقائمة ممنوعات من الطبيب، تنكد على عيشتي.
كنت أتخيل أنني تركت عصام فهمي في حجرة الطبيب.. وانتهى الأمر. ولكني اكتشفت أنه ملازمني طوال اليوم، يظهر ويختفي أمامي، يشد من أزري ويرفع من همتي، عندما أحتاج إلى اتخاذ قرار خاص بصدور العدد الأول من مجلتي الجديدة، من خلال مشاهد متلاحقة أمام عيني لا أستطيع أن أجعلها تتوقف أو أهرب منها، حتى عندما يأتيني تليفون وأضطر للرد عليه.. بمجرد انتهاء المكالمة أستكمل المشهد، جولاتي الميدانية مع صاحب "الدستور" على نقاط توزيع الصحف والمجلات في القاهرة، وهو يطمئن بنفسه على توزيع الجريدة أسبوعيًا، حرصه على أن يجعلني أحضر اجتماعاته مع "البياعين السرّيحة" لتحفيزهم بالجوائز والمكافآت.. في حالة عدم وجود مرتجع! كيف كنت أشاهده يتنقل بين "الفِرش" يوزع "رُبط" الدستور على باعة كانوا قد اتصلوا على المكتب يشتكون من أن "الأهرام" يعطيهم نسخًا قليلة.
توزيع الجورنال كان شغله الشاغل وهمه الأكبر، كنا الجريدة الوحيدة ربما في العالم، التي يتقاضى فيها المحررون رواتبهم من التوزيع وليس من الإعلانات. وهل أنسى عندما اتخذ قرار رفع سعر الجورنال من 50 قرشًا إلى 100 قرش، لمواجهة ارتفاع سعر الورق، كان قرارًا مصيريًا، بديله الإفلاس والإغراق في الديون، ولكنه عصام فهمي الذي كان يراهن على القارئ.. ولم يخذله القارئ أبدًا. القارئ الذي كان يقف في الشوارع يوم "الأربعاء" من كل أسبوع ينتظر "الدستور".
كثير من الأصدقاء يربطون بين صداقتي وأ. عصام فهمي بفترة عملي في "الدستور"، وده مش صحيح. أول مرة التقيت معاه كانت في بيتي في شبرا. وبدون موعد. كان بصحبة صديقي جمال شوقي. وفي الجلسة والتعارف.. عرفت أنه صاحب شركة إنتاج "ساوند أوف أمريكا". الشركة التي تنتج شرائط المطرب محمد منير، وبالمصادفة كنت أعلق في حجرة مكتبي بوستر ألبوم (الطول. واللون. والحرية) اعتبرتها فرصة ذهبية لأعرف المعاني المكتوبة على البوستر، واصطحبته إلى المكتب وهو لا يعرف أنا عايزه في إيه.. أمام البوستر انفجر في الضحك.. ووجهه احمرّ.. وأخبرني أنه هو الآخر لا يعرف معناها! وتبادل معي العبارات غير المألوفة.. التي أصبحت عنوانًا لمتانة صداقتنا. لدرجة أنه إذا تكلم معي بجدية والتزام.. أتكهن أن وقيعة بيننا تمت في الخفاء.. وأن في الأمور أمورًا.
كما حدث عندما خففت من زياراتي له بعد إغلاق "الدستور" وتفرغت للعمل في "إيه آر تي"، فدخل أولاد الحرام على الخط. ونقلوا له على لساني كلامًا لم يحدث، ولكن الرجال اللي من معدن عصام فهمي، يقدرون العيش والملح والصداقة، فوجئت به يرفع التليفون ويطلب مني أن أذهب إليه في مكتبه.. لم أجرؤ أن أناقشه.. أو أرفض. رفض أن يسمع دفاعي عن نفسي، وعرض عليّ العمل معه من جديد، وخيرني بين (صوت الأمة) و(عين)، واخترت "عين". جريدته المحببة وابنته الصغرى بين مطبوعاته، التي وفّر لها كل سبل النجاح والتألق.
واحترامًا لصداقتنا الممتدة، عندما قررت السفر للإمارات والاستقرار النهائي في أبوظبي، وافق على زيارتي له في بيته في توقيت كان ممنوعًا أن يزوره أي أحد بأوامر شخصية منه، حتى لا يرى أحد الآثار الجانبية للجلطات اللعينة. فلما قلت له إني مسافر.. ظهر عليه التأثر الشديد، وأعتقد أن تعرضي لمضايقات في الجورنال وراء سفري، أقسمت له أن السفرية مجرد فرصة عمل أخوض من خلالها تجربة ممارسة الصحافة خارج مصر، وعندما علم أنني مسافر لوحدي، وعدني أنه سيزورني في شقتي في أبوظبي.. ونسهر زي زمان. وتبادلنا الحكايات الساخنة، وطلب مني الدعاء له بالشفاء.
في اليوم ده فتح لي قلبه بحكايات وأسرار.. كنت أعرف بعض عناوينها الرئيسية.. لكن التفاصيل كانت فضائحية وصادمة.. صادمة لي على المستوى الشخصي، معظم أبطالها كنت شاهد "عيان" على ما قدمه لهم في مشوار نجوميتهم، حكى لي بتأثر شديد قصة الصحفي "الحنجوري" الذي نفذ حكمًا بالسجن في قضية سب وقذف، وقت أن كانت "الدستور" مغلقة، ورغم هذا كان حريصًا على أن يصل راتب هذا الصحفي شهريًا إلى بيته.. أما كيف رد هذا الصحفي الجميل لـه، فمن خلال دوره في إيقاف صفقة شرائه جريدة تعوضه "الدستور"، والتشهير به في الوسط الصحفي أنه تاجر.. ويريد أن يحول الجريدة إلى "دكان"! فلماذا لم يتذكر أنه تاجر، وأن زوجته ـ زوجة الصحفى ـ تقوم بإبلاغه في زيارتها له في السجن، أن التاجر عصام فهمي صاحب الجريدة المغلقة.. يرسل لها راتبه شهريًا حتى باب البيت.. "دي نقرة ودي نقرة".. ربنا يرحم عصام فهمي الراجل الجدع.