الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

جون كاسن .. "مقاليست" لبعض الوقت!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أتابع- باهتمام- سلوكيات سفير بريطانيا الجديد "المنظرجي" و"الحركتلي" جون كاسن وأراها تعبيراً عن رغبة في إعادة إنتاج نمط أو نموذج لرجال دولة بريطانيين أمنيين أو دبلوماسيين حاولوا التودد إلى زعماء قبائل إفريقيين في المستعمرات بإعطائهم بعض الخرز الملون، أو داعبوا أحلام بعض البدو إبان الثورة العربية 1916 محاولين إقناعهم بصدق المقاصد في معاونتهم، ثم تعويدهم عدم التفكير أو التصرف من دون رجوع إلى مندوب الحكومة البريطانية أو إحدى مؤسساتها، أو واحد من أجهزتها.
هكذا راح كاسن يدغدغ مشاعر المصريين- منذ جاء إلى القاهرة- بطريقة ساذجة جداً، فيجلس على المقاهي، ويأكل سندوتشات الفول والطعمية، ويشتري خروفاً في العيد ويسقيه بخرطوم حديقة السفارة في قصر الدوبارة، وغيرها من التصرفات المبتذلة التي لا تصلح إلا لاكتساب ود بعض العوام البسطاء الجهلاء، وحتى أولئك الغلابة كان لديهم من الحس والوعي الفطريين ما يجعل استقبالهم لأساليب جون كاسن السمجة فاتراً أو متجاهلاً على الكلية والتفصيل، عروض الأكروبات السياسي التي يقدمها في شوارع القاهرة منذ وطأها بقدميه.
أخيراً .. نشر جون كاسن مقالاً في إحدى صحف مصر التجارية الخاصة بعنوان: (ثورة يناير .. والطريق الثالث) زاول فيه ألاعيباً تواصل فيها مع استمالاته لبسطاء الناس، ولكنه هذه المرة استخدم رطاناً نخبوياً خاطب فيه المثقفين والسياسيين، مجرباً أن يصبح (مقاليست) يكتب في الجرائد، إلا أنه- ومع تواصل الألاعيب- لم ينجح- فيما يبدو- إلا في أن يصير (مونولوجيست) أضحكنا بأكثر مما أقنعنا.
وأوجز ملاحظاتي على مقال جون كاسن في النقاط التالية:
أولاً: ينبني مقال جون كاسن (الذي جاء في ذكرى عملية يناير الرابعة) على فكرة أن مصر تحتاج طريقاً ثالثاً (على غرار ما اخترعه أنطوني جيدنز وطبقه طوني بلير بين الاشتراكية والرأسمالية) ولكنه- في حالتنا- بين (السلطوية) و(التطرف)، وهو باسم تلك الجدلية المفتعلة أعطى نفسه الحق، في حشر نفسه وتقديم اقتراحاته للمصريين والتي لم يطلبوها منه، لأنهم يعرفون أن بريطانيا كانت طرفاً رئيسياً في المؤامرة لضرب الدولة المصرية في يناير 2011.
الآن يحاول البريطانيون (من خلال تحقيقهم المزيف عن جماعة الإخوان وعلاقتها بالإرهاب، وهي- في نهاية النهار- صناعة بريطانية منذ أوان حسن البنا وحتى الآن) إثبات أنهم ضد التطرف الذي حكم مصر عام 2012، ولكن ذلك غير صحيح، بدليل أن تحقيق الإخوان البريطاني لم يفض إلا لما يُسمى (تشديد الرقابة) وليس إلى (الحظر).
والآن .. يحاول السفير البريطاني، أن يقدم لنا وصفة سحرية يسميها الطريق الثالث بين (التسلطية) و(التطرف) أي بين تجربة حكم مبارك وتجربة حكم مرسي، والفكرة- في ذاتها- بديهية، ولكن ما حاوله السفير البريطاني من خلالها كان شيئاً آخر، وهو التبرير الأخلاقي للتدخل وعلى نحو ناعم جداً.
يتحدث جون كاسن عن طريق ثالث بين (التسلطية) و(التطرف) وهو يمثل دولة كانت باستمرار علي استعداد لمساندة نظم التسلطية في مصر، وكذلك نظم التطرف وهكذا فعلت مع مبارك ومع مرسي، إلا أنها انقلبت ضد كل منهما عندما شاهدت ملايين الناس تخرج في الشوارع.
والفريق الثالث الذي يقترحه كاسن وهو (الديمقراطية) يعني- في سياق مقاله- شيئاً آخر يحقق بالدرجة الأولى إطاحة (الدولة الوطنية)، وإحلال نظام آخر مكانها .. تابع تحركه دول وقوى الغرب كما تشاء.
ثانياً: يقول جون كاسن: "نحن كأصدقاء لمصر واجبنا أن نساعد الشعب المصري على تحقيق وفاء الحكومة بمصالح كل المواطنين والمسئولية أمامهم.
والحقيقة أن المساعدة لا تكون مقبولة إلا حين يطلبها هذا الشعب المصري من حكومة صاحبة الجلالة في لندن، أما وأن ذلك الشعب لم يطلبها من بريطانيا فإن القصة- حينئذ- ليست إلا تكراراً لخناقة أحد المكارية مع مواطن مالطي في الإسكندرية، كانت ذريعة مفتعلة للاحتلال البريطاني لمصر عام 1881.
وجون كاسن يقول: إن صيغة التدخل المبطن التي يطرحها علينا هي لتجنب ما جرى في عهد مبارك من إقصاء اقتصادي حين جاء النمو الاقتصادي لصالح قلة من الناس شعروا بفقدان الأمل حين عانوا البطالة والفقر، كما أن التدخل البريطاني المقنع الذي يطرحه المقاليست جون كاسن هو- في رأيه- وسيلتنا لتجنب شعور الناس بالاغتراب السياسي الذي حدث في عصر مرسي بعد احتكاره وجماعته لكل المنصات السياسية في المجتمع.
وبقول واحد .. فإن حياتي وعملي لفترة معقولة من الوقت في بريطانيا أخبراني أن ذلك البلد ليس مثلاً يحتذى فيما يتعلق بعدم (الإقصاء الاقتصادي) لأن مناطق الفقر المروع حتى بالعاصمة لندن في تاورهاملت وبريكستون وتوتينج وغيرها يشير بشكل لا لبس فيه إلى أن توزيع النمو ليس عادلاً على السكان، وقد رأيت- بعيني رأسي- كيف قام رجال الشرطة البريطانيين من راكبي الجياد بضرب المحتجين على ضريبة الرأس التي فرضتها مارجريت تاتشر في منتصف الثمانينيات، وكيف واجهت الإدارة البريطانية احتجاجات بريكستون الاقتصادية- الاجتماعية- بمنتهى القمع في أواخر التسعينيات في عهد توني بلير.
ثم أن حديثك يا سيد كاسن عن الإقصاء الإخواني السياسي الإجرامي في معرض تبريرك للتدخل البريطاني في شئون مصر أو تسهيلك لذلك التدخل لا يستقيم، مع دعوات الإقصاء السياسي الرائجة- الآن- في بلدك على لسان نايجل فاراج وحزب الاستقلال الذي تنبنى دعوته على إبعاد بعض مكونات المجتمع البريطاني السكانية على أساس عرقي يميني متطرف يمتلئ بالزينوفوبيا أو العداء للأجانب، ولما كان حزب الاستقلال قد احتل في انتخابات المحليات السابقة المرتبة الرابعة، ويزيد رواجه السياسي في بريطانيا يوماً وراء آخر، فإن الإقصاء السياسي المترتب على أفكاره العنصرية يعني أن بريطانيا هي الأجدر بالنصح، ولكنني لم ألاحظ، ولعل كاسن لم يلاحظ أيضاً أن الحكومة المصرية لم تحاول مساعدة الشعب البريطاني (بالإكراه كما يفعل هو) لمواجهة الإقصاء السياسي.
وضمن الإقصاء السياسي المبني على أسس طائفية في بريطانيا- كما تعلم يا سيد كاسن- إعلان رئيس وزرائك دافيد كاميرون في عيد الفصح الماضي أن بريطانيا (دولة مسيحية) وهو ما يعني إقصاء سياسياً على أسس طائفية، لا بل ولعله كان سبباً في احتجاجات ضخمة من جانب اللادينيين في بلدكم، والذين شعروا أن خطاب رئيس وزرائك يقصيهم!
ثالثاً: كلام جون كاسن الذي يحاول التعاقل ويقدم- من دون أن يطلب منه أحد- نصائحاً مجانية بالإكراه للمصريين، يتحدث عن أنه سيكون دليلنا إلى احترام القانون، والمساءلة المفتوحة، ولكنني- في هذا السياق- أود من السيد "كاسن" أن يقدم لي تفسيراً لما كان الجنود البريطانيين يقومون به في العراق وأفغانستان من تعذيب المعتقلين وإهانة المصاحف، وهل يتصور أننا يمكن أن ننظر بعد ذلك إلى دولة يرتكب جنودها وضباطها مثل تلك الأعمال باعتبارها مرشدنا إلى الديمقراطية الحقة، وأرجو ألا يتحدث لي سعادة سفير المملكة المتحدة بأن ذلك يمثل حالات فردية، لأنه تكرر وبما يعني أنه يمثل ثقافة موجودة في بلده بشكل واسع تحتقر الآخر وتنفيه وتهينه إلى غير ما حدود.
رابعاً:
ويتكلم جون كاسن المقاليست ذو القلم السيال عن ما أسماه الربيع العربي ويناير، باعتبارهما مصدراً لدروس "لا تزال مصدر أمل" ويقول مستطرداً "صحيح أن بعض الشباب ما زال في السجون وبعضهم الآخر فقدوا أرواحهم ولكن الربيع العربي لم يمت"، وعلى ذلك النحو فقد نصب جون كاسن نفسه مشرفاً على يناير وخولي زراعة يباشر تطبيق القانون في مصر وفقاً لمفاهيمه هو، وحديث السفير البريطاني عن شباب مسجونين، إنما يشي بجهل حقيقي بالأسباب التي وُضع بها أولئك وراء القضبان، ووفقاً لإحالات وقضايا وإجراءات قانونية منضبطة وعمليات تقاضي طويلة وشديدة الدقة.
خامساً: ويقول جون كاسن في ختام مقاله بعد أن تحول إلى "مقاليست" في وقت فراغه بعد انتهاء عمله اليومي في السفارة: "لا يستطيع أي خبير أو أجنبي أو جماعة انتزاع مهمة تقرير مستقبل مصر من المصريين، ولقد شهد هذا الإقليم محاولات فاشلة من خارجه لفرض وجهات نظر على المصريين"
ولما كان جون كاسن يعرف ذلك، وقرره مكتوباً بخط يده في مقالته، فمن باب أولى أن يمتنع هو، لا بل وهو بالذات عن تلك الثرثرة غير المقنعة التي تحاول أن تسوق إلينا الجزء الثاني من محاولة التدخل الغربي في الشأن المصري، أم تراه يتصور أنه نجح في خداعنا عبر الفول والطعمية والخروف والجلوس على المقهى، وأننا اقتنعنا بأنه مصري وليس غريباً ومن حقه التدخل في أمورنا وإسداء نصائحه الخبيثة والمموهة والمغلوطة.