الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

مختارات من أعمال فرجينيا وولف

مختارات من أعمال
مختارات من أعمال فرجينيا وولف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في الذكرى الثالثة والثلاثين بعد المائة على مولد " فرجينيا وولف" إحدى أيقونات الأدب الإنجليزي، اختارت البوابة نيوز" أربعة قصص من أعمالها، وهي "الفستان الجديد"، "موتُ فراشةِ العثّ"، "البستان"، و"الإثنين أو الثلاثاء"، وهي من الأعمال التي اشتهرت بها الكاتبة الراحلة، والتي أظهرت فيها العديد من مخاوفها وأحلامها، حيث كانت الدوافع النفسية هي من أهم العوامل التي بنت عليها "وولف" كتاباتها.

"الفستان الجديد"..
السيدة "مايبيل" بدأ الشكُّ يساورها، للمرة الأولى، بأن شيئًا ما كان خطأ، بمجرد أن خلعت عباءتَها، ثم ما لبثت مسز "بارنيت" أن أكدّت ذلك الشكَّ، حين ناولتها المرآةَ وراحت تلامسُ الفُرشَاة بيدها كأنما لتجذب انتباهها، على نحو مفضوح قليلا، إلى كلِّ أدوات تصفيف وتجميل الشعر والبشرة والملابس، تلك المصفوفة فوق تسريحة الزينة، كل هذا أكد الشكَّ--- بأنه لم يكن مناسبًا، لم يكن مضبوطًا أبدا. ثم ظلَّ ذلك الشكُّ يتنامى ويقوى فيما كانت ترتقي الدَّرَج إلى الطابق العلوي ثم وثبتْ مندفعةً إلى --- وقد وصل شكُّها إلى اليقين التام أثناءَ إلقائها التحيةَ إلى "كلاريسا دالاواي"، ثم توجهتْ رأسًا إلى النهاية القصوى المعتمة من الغرفة، إلى ذلك الركن المنعزل البعيد، حيث مرآةٌ معلّقة، ثم، نظرت.
"كلا! لم يكن مناسبًا"، وفي الحال، تجمعت فوق ملامحها سُحُبُ التعاسةِ التي طالما حاولت أن تخفيها، الشعورُ بالاستياءِ العميق وعدم الرضا- - وذلك الإحساس، الذي دائما ما تملّك منها، حتى منذ كانت طفلةً، بأنها أقلُ شأنًا من الآخرين- - كلُّ هذا انقضَّ عليها، هاجمها بشراسة، بقسوة، بوحشية، وبكثافة لم تستطع معها التغلّبَ عليها كما كانت اعتادت أن تفعل، حينما كانت تصحو في الليل ببيتها، عن طريق قراءة "بورو" أو "سكوت"؛ بسبب، يا لهؤلاء الرجال، يا لهؤلاء النساء، الجميعُ كان يفكّر"ما هذا الذي تلبسه "مايبيل"؟ كم يبدو منظرُها شنيعًا! ما أبشع فستانها الجديد!" جفونُ عيونِهم ترتعش وهم يقتربون منها ثم تبدأ في الإغماض قليلا حتى تُغمِض. إنه قصورُها المخيف؛ ارتعابُها؛ ضعةُ سلالتها وانحطاط منشأها، هو ما كان يغُمُّها ويسبب إحباطَها. وفي الحال بدت كلُّ أرجاء الغرفة تلك التي، لساعاتٍ طويلةٍ جدًّا، ظلّت تخطّط فيها مع الطرزية الصغيرة كيف سيكون الشكل النهائيّ للفستان، بدتْ رثّةً، مثيرةً للاشمئزاز؛ كما بدت قاعةُ الاستقبال الخاصة بها بائسةً بالية؛ وهي نفسها، التي كانت قد خرجتْ من الغرفة يومها، ممتلئةً بالزهو بينما تمسُّ بيدها الخطاباتِ فوق طاولة القاعة وتقول: "يا للملل!" لكي تستعرض وتلفت الأنظار- - كلُّ هذا بدا الآن سخيفًا جدًّا، أحمق، تافهًا، قرويًّا. الأمرُ برمته انهدم رأسًا على عقب، اِفتُضِحَ، نُسف كليًّا، في اللحظة التي دخلتْ فيها قاعةَ الاستقبال الخاصة بمسز دالاواي.
=======
"موتُ فراشةِ العثّ"..
لا ينبغي تسميةُ فراشاتِ العثِّ التي تطيرُ في النهار فراشاتِ عث؛ إنها لا تثير ذلك الإحساسَ الساحرَ لليالي الخريفِ المعتمةِ وزهرِ اللبلابِ الذي لا تخطئ فراشةُ العثِّ ذات الجناحِ الباطنيِّ الأصفرِ، نائمةً في ظلِّ الستارةِ، إيقاظَه فينا. إنها كائناتٌ هجينةٌ، فلا هي زاهيةٌ كالفراشاتِ ولا هي قاتمةٌ كجنسِها. بَيْد أن النموذجَ الماثلَ أمامنا، بأجنحتِه النحيلةِ بلون القشِّ، مُهدَّبا بشرّابةٍ من اللونِ نفسِه، بدا قانعا بالحياة. كان يوما لطيفا، منتصفَ أيلول، معتدلا، هادئا، إلا أن له نسمةً أحمى من نسمةِ أشهرِ الصيف. كان المحراثُ قد بدأ يخدشُ الحقلَ المواجهَ للنافذةِ، وحيثما مرّت شفرةُ المحراثِ، فإن الأرض قد سُوِّيت وتبرق نداوةً. دخلتْ تلك الحيويةُ متدفقةً من الحقولِ والسهبِ البعيد لدرجة أن إبقاءَ النظرِ مركزا على الكتابِ غدا صعبا. الغربانُ أيضا كانت تقيم أحدَ احتفالاتِها السنويةِ، وهي تحلّقُ فوق رؤوسِ الأشجارِ حتى بدا الأمر وكأن شبكةً عريضةً بآلافِ العُقَدِ السوداءِ قد رُميت في الجو، ثم نزلت ببطءٍ بعد لحظاتٍ قليلةٍ على الأشجارِ حتى بدا كلُّ غصنٍ بعُقدةٍ في نهايتِه. ثم تُنفضُ الشبكةُ مرةً أخرى في الهواءِ، في دائرةٍ أوسع هذه المرة، بأقصى ما يكون من صياحٍ وجلبةٍ، كما لو كان رميُها في الهواء واستواؤها ببطءٍ على قممِ الأشجارِ تجربةً في منتهى الإثارة.
الطاقةُ نفسها التي ألهمتِ الغربانَ والفلاحينَ والخيولَ، بل وحتى الجناحَيْن الهزيلَيْن العاريَيْن بزغبِهما، دفعتْ فراشةَ العثِّ إلى الرفرفةِ من جهةٍ إلى أخرى في حيّزِها من لوحِ النافذةِ الزجاجيِّ. لم يكن بوسع امرئٍ ما تفادي مشاهدتِها. بل إن هذا المرء كان واعيا لشعورٍ غريبٍ بالشفقةِ حيالَها. بدت احتمالاتُ المتعةِ ذلك الصباحِ هائلةً جدا ومتنوعةً جدا حتى غدا الاقتصارُ على دَوْرِ فراشةِ عثٍّ في الحياةِ، وفراشةِ عثٍّ نهاريةٍ فوقَ ذلك، قَدَرا قاسيا، وبدت شهيتُها في التمتعِ الكاملِ بالفرصِ الضئيلةِ التي تمتلكها بائسةً. طارت بنشاطٍ إلى ركنٍ من مقصورتِها، ثم طارت إلى الآخر بعد ثانية من الانتظار. ما الذي بقي لها سوى أن تطير إلى ركنٍ ثالثٍ ثم رابع؟ كان ذلك كل ما بوسعها القيام به، على رغم حجم السهوب وعرض السماء والدخان البعيد للمنازل والصوت العاطفي، بين الحين والآخر، لسفينة في البحر. قامت بما بوسعها القيام به. بدا الأمر حين مشاهدتها وكأن ليفا من الطاقة الهائلة للعالم، دقيقا جدا لكنه نقي، قد دُفع في جسدها الضعيف والصغير. وكلما عبرت اللوح الزجاجي كنت أتخيل أن خيطا مفعما بالحيوية يتبدى للعيان. كانت صغيرة أو لا شيء سوى الحياة.
مع ذلك، لأنها كانت صغيرة جدا وشكلا بسيطا من الطاقة التي كانت تتدفق عبر النافذة المشرّعة وتقود طريقها عبر كثير من الدهاليز الضيقة والمعقدة لدماغي وأدمغة سائر البشر، كان هنالك شيء مدهش عنها ومثير للشفقة أيضا. كان الأمر كما لو أن أحدا أخذ خرزةً صغيرةً من جوهر الحياة، وبعد تزيينها بألطف ما يمكن بالزغبِ والريشِ وضعها راقصة ومتأرجحة ليُريَنا الطبيعة الحقيقة للحياة. لا يمكن لامرئ أن يتجاوز غرابتها، وهي معروضة بهذه الهيئة. بل حريٌّ به نسيانُ كل شيء عن الحياة، وهو يراها محدبةً ومسيطَرا عليها ومزخرفةً ومُثقلةً بحيث عليها أن تتحرك بأقصى درجات الحذر والوقار. ومرة أخرى، دعته فكرةُ كيف كانت الحياة ستكون لو وُلدت فراشةُ العث في أي شكل آخر، إلى أن يتابع حركاتها البسيطة بنوع من الشفقة.
حطت بعد حين، وقد أرهقها رقصها فيما يبدو، على حافة النافذة تحت الشمس، ونسيتُها، بينما المشهد على انتهاء. بعد ذلك، وبينما كنت أرفع بصري، استرعت انتباهي. كانت تحاول استئناف رقصها، لكنها بدت إما من التصلّب أو من الخراقة بمكان بحيث لم تقدر سوى على الرفرفة إلى أسفلِ لوح النافذة، وعندما حاولت أن تطير عبر النافذة فشلت. منصرفةً إلى شئون أخرى، قضيت وقتا في مشاهدة المحاولات غير المجدية هذه من دون تفكير، وأنا أنتظر بغير وعي أن تستأنف طيرانها، كما ينتظر أحدهم آلةً توقفت عن العمل هنيهاتٍ أن تعمل من جديد من دون النظر في سبب إخفاقها. بعد محاولة سابعة، ربما، انزلقتْ من الحافة الخشبية وسقطت على ظهرها، مرفرفةً بجناحيها، على حافة النافذة. حرضني عجزُ سلوكها. دار بخلدي أنها في ورطة، فهي لم تعد قادرة على رفع نفسها، كما أن سيقانها كانت تصارع عبثا. لكنني أدركت، وأنا أمدّ قلمَ رصاص بنيّةِ مساعدتها على تعديل هيئتها، أن الإخفاق والارتباك كانا لدنوّ الموت. وضعتُ قلم الرصاص مرة أخرى.
هزت السيقان من جديدٍ بعضها. بحثتُ عما يبدو العدو الذي كانت تصارعه. نظرتُ إلى الخارج. ما الذي حصل هناك؟ من المفترض أنه منتصف النهار، وأن العمل في الحقول قد توقف. أخذ السكونُ والهدوءُ مكانَ ما كان من حيوية. طارت الطيور بعيدا لطلب القوت في الجداول. الخيول واقفة في أماكنها. لكن الطاقة كانت هناك على حالها، محشودة بالخارج غير مبالية، غير شخصية، غير مصغية إلى أي شيء تحديدا. كانت معادية، بطريقة ما، لفراشة العث الصغيرة بلون القش. لم يكن هناك طائل من محاولة القيام بأي شيء. كل ما يمكن لامرئ فعله هو مشاهدة الجهود الاستثنائية التي تبذلها تلك السيقان الضئيلة في مواجهة موت آزف، كان بإمكانه، لو أراد، أن يغمر مدينة كاملة، ليس مدينة فحسب، بل جموعا من البشر. ما من خيار لأي شيء حيال الموت، كما أعرف. بيد أن السيقان ارتعشت ثانية بعد فترة من الإعياء. كان رائعا هذا الاحتجاج الأخير، وغاية في الاهتياج لدرجة أنها نجحت أخيرا في تعديل هيئتها. كان تعاطف الإنسان متّجها بأكمله إلى صفّ الحياة. أيضا، عندما لم يكن هنالك أحد يهتم أو يعرف، فقد أثار المرءَ بغرابةٍ هذا الجهدُ الضخمُ من جانب فراشة عث تافهة صغيرة في مواجهة قوة مفرطة في الحجم، للاحتفاظ بما لم يقدّره أو يرغب في الاحتفاظ به أحد سواها. مرة أخرى، بطريقة أو بأخرى، رأى المرءُ الحياةَ خرزة خالصة. رفعتُ قلم الرصاص من جديد، على رغم إدراكي لعدم جدوى فعلي. لكن حتى وأنا أقوم بذلك، برزت أمارات الموت جلية. ارتخى الجسد، وحالا أخذ في التصلب. انتهى الصراع. عرف الكائنُ الحقير الصغير الموتَ الآن. وبينما كنت أنظر إلى فراشة العث الصريعة، غمرني بالدهشة هذا الانتصارُ الجانبي التافه لقوة بالغة العِظم على غريم دنيء. فكما أن الحياة كانت غريبة قبل بضع دقائق، فإن الموت الآن غريب. استلقت فراشة العث الآن وقد عدلت هيئتها في غاية الاحتشام والهدوء دون تشكٍّ. أجل، بدا أنها تقول: الموت أقوى مني.
=======
"البستان"..
غفَتْ ميراندا في البستان، فيما كانت مستلقيةً فوق مقعدٍ طويل تحت شجرة التفاح. كان كتابُها قد سقط داخل حشائش العشب، وإصبعها مازال كأنه يشير إلى جملة " هذا البلد في الواقع هو أحد أركان العالم، نعم، ضحكةُ البناتِ تبهجُ على نحو أفضل"، وكأنما قد سقطت في النوم عند هذه النقطة بالضبط، أحجار الأوبال في إصبعها كانت تتلألأ بضوء أخضر، ثم بضوء ورديّ، ثم تشعُّ ضوءًا برتقاليًّا من جديد حين تتسرب إليها أشعةُ الشمس عبر أشجار التفاح، وتملأها. في ذلك اليوم، وبمجرد أن يهبَّ النسيم، كان فستانُها الأرجوانيّ يترقرقُ متموّجًا مثل زهرةٍ عالقة بغصنٍ؛ تحني الحشائشُ رءوسها؛ وتحوّمُ الفراشات البيضاءُ دافقةً من هذا الطريق ومن ذاك الطريق، بالضبط فوق وجهها.
على مسافة أربعة أقدام في الهواء فوق رأسها كانت التفاحات معلّقةً. وفجأةً، علتْ ضجةٌ حادّةُ النغمةِ كأنما رنينُ نواقيسَ من نحاسٍ مشقوق تُقرَع بعنف، بغير انتظام، وعلى نحوٍ وحشيّ. لم يكن ذلك سوى أطفال المدرسة يرددون جدول الضرب مجتمعين في صوت واحد، يُستوقَفون من قِبَل المعلّمة، يوبَّخون بغلظةٍ، ثم يبدءون من جديد في تسميع جدول الضرب مرّة بعد مرّة.
لكن هذا الصخبَ مرَّ على ارتفاع أربعة أقدام فوق رأس ميراندا، مخترقًا أغصان التفاح، ثم ضاربًا رأسَ الولد الصغير ابن راعي البقر الذي كان يجمع ثمارَ التوت الأسود من سياج الشجيرات، بينما من المفروض أن يكون في المدرسة الآن، ما جعله يجرحُ إبهامَه بالأشواك في الجوار، ثَمَّ نحيبٌ منعزلٌ وحيد–حزينٌ، بشريٌّ، وحشيّ. بريسلي العجوز كان في الواقع شديدَ الثَمَلِ حدَّ العماء.
آنذاك، الأوراقُ الأكثر ارتفاعًا في قمّة شجرة التفاح، منبسطةٌ مثل اسماك صغيرة في مواجهة زرقة السماء الحزينة، على ارتفاع ثلاثين قدمًا فوق الأرض، كانت الأوراق تحفُّ بصوت جرسٍ يدق برنينٍ موسيقىًّ عميق وحزين. ذاك هو الأرغن في الكنيسة يعزف أحد التراتيل القديمة والحديثة. الصوتُ حلّق سابحًا في العلا ثم تشظّى إلى ذرّاتٍ دقيقة بأجنحةِ سربٍ من عابري الحقول كان يطير بسرعة هائلة من مكان لمكان.
ميراندا كانت ترقد نائمةً على بعد ثلاثين قدما لأسفل.
وإذن، أعلى شجرتيْ التفاح والكمثرى، على ارتفاع مائتي قدم من ميراندا التي كانت ترقد نائمةً في البستان، ثمة أجراسٌ تقرع على نحوٍ متقطّع مكتوم، عظاتٌ نكِدة، لأن ستَّ نساءٍ بائساتٍ من الأبرشية كُنَ يؤدين صلاةَ الشكر بينما كبير القساوسة يرفع الدعاء للسماء.
وأعلى ذلك، وبصوتٍ ذي صريرٍ حادٍ، كان السهمُ الذهبيّ لبرج الكنيسة، الذي يشبه ريشة الطائر، يدور من الجنوب إلى الشرق. الرياح تغيّرت. وفوق كل شيء آخر كانت تدمدم وتطلق أزيزها، فوق الغابات والمروج الخضر والتلال، وفوق أميال من ميراندا التي كانت ترقد في البستان نائمةً. كانت الرياح تجرفُ كلَّ شيء دون تمييز، بلا عينين ولا عقل، لا شيءَ قابلته كان بوسعه الصمودُ أمامها، إلى أن، دار السهمُ إلى الجهةِ الأخرى، الرياحُ تتحوّل إلى الجنوب مرّة أخرى. على مسافة أميال للأسفل، في فراغٍ بسعةِ ثقبِ إبرة، كانت ميراندا تقفُ منتصبةً وتهتفُ بصوتٍ عالٍ "أوه، سوف أتأخر على موعد الشاي!".
ميراندا نامت في البستان، أو ربما هي لم تكن نائمة، لأن شفتيها كانتا تتحركان خفيفًا خفيفًا كأنما تهمسان "إن هذا البلد في الواقع هو أحد أركان العالم.. نعم، ضحكة البنات.. تتوهجُ.. تتوهجُ.. تتوهجُ"، بعد ذلك ابتسمت، ثم تركت جسدها يغوص بكامل وزنه فوق الأرض الهائلة التي أخذت تصعدُ، ميراندا تفكر" كي تحملَني فوق ظهرها كما لو كنتُ ورقةَ شجر، أو، ملكةً"، هنا كان الأطفال يرددون جدول الضرب، أو، تستأنفُ ميراندا، ربما أجد نفسي ممددةً في استرخاء فوق منحدر شاهق ومن فوقي تصرخ النوارسُ. كلما طارت لارتفاعاتٍ أعلى وأوغلتْ في السماء أكثر، تكملُ ميراندا، بينما المعلّمة توبّخ التلاميذ وتضرب جيمي فوق مفصلات أصابعه حتى تدميها، كلما بدا انعكاسُها( ) أعمقَ داخل البحر – داخل البحر، أخذت تكرّر، بينما راحت أصابعُها تسترخي وشفتاها قد أُغلقتا بلطفٍ كأنما بدأت تطفو فوق صفحة البحر، آنذاك، حين علت صيحةُ الرجل السكران في الأفق، سحبت ميراندا شهيقًا عميقًا بنشوةٍ غير عادية، إذ تخيّلت نفسها تسمعُ الحياةَ ذاتها تصرخُ عبر لسان خشن فظ داخل من فم قرمزيّ داعر، خلال الرياح، خلال الأجراس، وخلال الأوراق الخضراء الملتوية لثمار الكرنب.
بطبيعة الحال كان حفل زفافها حينما عزف الأرغن لحن الترانيم القديمة والحديثة، و، عندما قرعت الأجراس بعد أن أقامت النساء الستُّ الفقيرات صلاة الشكر في الكنيسة، راح الصوتُ المتقطّع المكتومُ النَكِدُ يدفعُها أن تفكر أن هذه الأرض ذاتَها ترتعد تحت حوافر الحصان الذي كان يركضُ نحوها بسرعة "آه، يجب عليّ أن أنتظر وحسب"، تنهدت بحسرة، وبدا لها أن كل شيء قد بدأ الآن يتحرّك، يصيح، يمتطي صهوةً ما، كل شيء بدأ يطير حولها ونحوها وخلالها وفْق تشكيل منتظم.
ماري تُقطّع الأخشاب، تفكّر؛ بيرمان يرعى الأبقار؛ عربات اليد قادمةٌ لأعلى من ناحية المروج؛ الرجل الراكب وهي راحت تقتفي أثرَ الخطوط التي خلّفها الرجالُ والعرباتُ والطيورُ، والرجلُ الراكب، على أرض القرية، إلى أن بدوا جميعا كأنما يُجرفون للخارج في كل اتجاه، جرفتهم دقّةُ قلبها.
تبدّلت الرياح على ارتفاع أميال في الهواء؛ الريشة الذهبية لبرج الكنيسة أصدرت صريرا حادًّا؛ فقفزت ميراندا عاليًا وصرخت" أوه، سوف أتأخر على موعد الشاي".

ميراندا نامت في البستان، أوَ هل كانت نائمةً، أم هل هي لم تكن نائمة؟
فستانُها الأرجوانيّ كان ممدودًا ومنشورًا بين شجرتيْ التفاح. كان هناك أربع وعشرون شجرة تفاح في البستان، بعضها يميل قليلا، والبعضُ الآخر ينمو مستقيمًا على نحو رأسيّ بجزعٍ منبثقٍ لأعلى، الذي يتمدد بدوره في اتساعٍ ثم يتشعّبُ إلى فروعٍ وأغصان تتحوّر إلى قطرات مستديرة حمراء أو صفراء. كل شجرة تفاح كان لديها فضاؤها الكافي. والسماء كانت على قدِّ مسطّح الأوراق بالضبط. حين كان نسيمُ الهواء يعصفُ، كانت خطوط الأغصان المقابلة للسور تنحني قليلا ثم تعود. أبو فصادة كان يطير حذوَ القُطْرِ من ركنٍ إلى ركن. وعلى نحوٍ حذرٍ كان طائر الحَجَل المغرّد يحجل على ساق واحدةٍ ساعيًا نحو تفاحة تسقط على الأرض؛ ومن جانب السور الآخر جاء عصفورٌ يرفرفُ فوق العشب تماما. أغصان الأشجار العلوية كانت موصولةً بالأسفل عن طريق تلك الحركات؛ والكلُّ كان مُحكما وموثوقًا بأسوار البستان. لعدة أميال للأسفل، كانت الأرض مشدودةً بإحكام إلى بعضها؛ متموّجًّةً عند السطح بسبب الهواء المتذبذب المتمايل؛ وعبر أحد أركان البستان كان الأزرق، الأخضر مشقوقًا طوليًّا بشريط أرجوانيّ، الرياح تتغيّرُ الآن، عنقودٌ من ثمر التفاح كان قد قُذف عاليًا جدا حتى أنه خبط ومحا تماما بقرتين كانتا ترعيان في المرج، أوه، سوف أتأخر على موعد الشاي"، صاحت ميراندا، بينما التفاحُ راح يتدلى من جديد باستقامة، فوق السور.
=======
"الإثنين أو الثلاثاء"..
بكسل ولا مبالاة، يهز الفضاء بسهولة من جناحيه، مدرك لطريقه، يعبر مالك الحزين فوق الكنيسة وتحت السماء، بيضاء وممتدة، متداخلة في ذاتها،إلى ما لانهاية، السماء تغطي وتكشف، تحرك وتبقي. بحيرة ؟ احذف منها الشواطئ بعيدًا!
جبل؟ أوه، إن هذا مثالي – الشمس الذهبية على منحدراته، دون تلك الشلالات، نباتات السرخس أو الريش الأبيض إلى الأبد والأبد.
متطلع إلى الحقيقة، منتظر لها، بصعوبة بالغة تقطر منه بعض الكلمات، إلى الأبد تواق-(صرخة تبدأ إلى اليسار وأخرى إلى اليمين، الدواليب تطرق بانحراف، مجاميع السيارات تتكتل بتناقض) –إلى الأبد تواق– (ساعة الجدار تؤكد بحزم وباثنتي عشرة ضربة أنه منتصف النهار، الضوء عزل الموازين الذهبية، والأطفال احتشدوا)- إلى الأبد يتوق للحقيقة.
حمراء هي القبة، قطع النقود معلقة على الأشجار، الدخان يمتد كذيل من المداخن، نباح..صراخ.. وضجيج، "حديد للبيع " والحقيقة؟؟
تشع نحو نقطة أقدام الرجال والنساء، سوداء أو مغلفة بالذهب "هذا الطقس الضبابي، سكر؟ لا، شكرا لك، كومنولث المستقبل، ضوء النار يندفع ويحيل الغرفة حمراء باستثناء الهيئات السود وعيونها المشرقة، بينما في الخارج وقفت سيارة فان تفرغ حمولتها، الآنسة ثنغمي تتناول الشاي جالسة إلى طاولتها وألواح الزجاج تصون معاطف الفراء.
مختالًا كطاووس، ضوء أوراق الشجر ينحرف باتجاه الزوايا ينفخ عبر الدواليب مرشوشًا بالفضة، في البيت أو خارجه، متجمع، منقط، مبدد بمقاييس منفصلة، مقلوب إلى أعلى، أسفل، ممزق، غارق، مجمّع، والحقيقة ؟
الآن لإعادة التجمع بواسطة جانب النار على المربع الرخامي الأبيض. من الأعماق العاجية تنهض الكلمات ناثرة سوادها، برعمها ونفاذها.
واقع الكتاب، في اللهب، في الدخان، في الشرارات اللحظية– أو الآن يسافر المربع الرخامي المتدل، المنارات في الأسفل والبحور الهندية، بينما الفضاء ينطلق أزرقًا والنجوم تتلألأ، حقيقة؟، أو الآن راضية بالقرب؟
بكسل ولا مبالاة يعود مالك الحزين، السماء تخبئ نجومها ثم تعود وتكشفها.