الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ارتباك غربي أمام التطرف الإسلامي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من أهم الحقائق الجديدة الصادمة فى مجزرة مجلة "شارلى إبدو" وتوابعها، أن كل الأطراف الفاعلة مباشرة فرنسيون: القَتَلة فرنسيون، وكذلك الضحايا، وفى الحلقة الثانية من الجريمة كان الخاطفون فرنسيين وكذلك الرهائن، وأجهزة الأمن فرنسية، وهى حقيقة لا يؤثر فيها أن هناك عنصرا أجنبيا ساعد الإرهابيين دون التورط فى مسرح الجريمة، عن طريق التدريب والشحن الفكرى والتأهيل النفسى ومباركة الجريمة، وربما بالتمويل أيضا، وغير ذلك.
هو، إذن، شأن داخلى فرنسى لا علاقة لدولة أخرى به، ولا لثقافة أخرى غير تلك الخلطة الثقافية السائدة لدى الفرنسيين، ولا لقيادات روحية أو دينية من خارج فرنسا! ولكن الرئيس الفرنسى دعا العالم كله للوقوف مع بلاده، وكانت البداية بالتظاهرة الرمزية، التى حضرها ممثلون من أرجاء المعمورة.
أول استخلاص مباشر من هذه الحقيقة الجديدة هو أن واحدة من أهم دول الغرب قد تدهورت أحوالها إلى حد انهيار عمود أساسى فى بنائها الفكرى والسياسى، مما كانت تُباهِى به العالم، بأن صراعاتها الداخلية، بين جميع طبقاتها وطوائفها وجماعاتها وفئاتها، تجرى فى إطار متمدين ينبذ العنف ويلتزم بقواعد الحوار المتحضر وشروطه.
ثم جاءت الجريمة الأخيرة لتثبت خطأ هذا الافتراض، أو ربما أنه كان صحيحا فى الماضى ولكن المؤكد أنه لم يعد كذلك، لأن الركن الأساسى هناك، الذى يقوم عليه العمل العام فى جميع المجالات وعلى جميع المستويات، هو حرية التعبير، التى هى مصانة بالدستور والقانون والتقاليد الراسخة، ولكن اتضح أن بعض الأطراف من أبناء البلاد يستخدمون هذا الحق بطريقة ما وإلى مدى يصل إلى حد إيذاء بعض مواطنيهم بأسوأ ما يكون الأذى، ولم يعد الحوار المتحضر وسيلة حاسمة لتسوية هذا الخلاف عند نقطة يرضى بها الجميع، وقد تمسك كل طرف بموقفه مما جعل الأمور تتفاقم، وهو ما دفع المتضرر إلى الخروج عما كان يُعتَبَر تقليدا راسخا بأبشع طريقة برفع السلاح للانتقام ممن آذوهم فى مشاعرهم الدينية، ولحماية رموزهم الدينية، ولرد الاعتبار إلى أنفسهم، ولردع من يفكر ثانية فى اتباع نفس الأسلوب.
وهى جريمة مدانة بأوضح الكلمات وأقواها، ولكن الإدانة لا تنفى أن فرنسا صارت بصدد معضلة مُستَجَدة، ليس هناك ضمانة أنها لن تتكرر، مما جعلها لا تختلف كثيراً فى هذه النقطة عن مجتمعات أقل تطوراً، بل قد بدت المشكلة مرشحة لمزيد من التفاقم، لأن ردود الفعل الأولى لا تعكس أنهم أدركوا أنه ينبغى إحداث تغيير عميق حتى تتمكن الدولة من مواكبة التغيرات الاجتماعية والثقافية الكبيرة التى طرأت على بنيتها، حتى صارت أكثر تنوعاً، بما يصل أحياناً إلى حد التنافر والتناقض، بعد أن كان يغلب عليها هارمونية أكبر قبل عدة عقود! فقد وَفَدَ على البلاد أعدادٌ بالملايين من ثقافات أخرى، إما عن طريق مجموعة الفرانكفون، التى إنْ كانت اللغة تجمع فيما بينها فإن عوامل شتى تفرق بين ثقافاتها، أو عن طريق استقطاب الكفاءات الأجنبية ذات الكفاءة العالية، أو فى سبيل استيراد عمالة مطلوبة فى مجالات معينة مما ينفر الفرنسيون من القيام بها، إضافة إلى من قَدِموا لأسباب وعوامل أخرى.
ومن كل هؤلاء جاءت أجيال تالية، صاروا فرنسيين بالميلاد، ولكنهم لا يحسون بالانتماء الحقيقى لفرنسا لأسباب كثيرة لم يكن هم المسئولين عنها فى كل الأحوال، وترتب على عدم اندماجهم كاملاً إحساسُ الاغتراب والتهميش، الذى تردى إلى حد الإحساس بالظلم والاضطهاد العمدى، وزاد على ذلك أن يتلقوا إهانات فى دينهم وسخرية لرموزهم الدينية.
العلاج الناجع مشروط بمراجعات أساسية من الدولة الرسمية ومن كل الجماعات، خاصة السياسية والثقافية، مع الوضع فى الاعتبار أن الوصول إلى الحلول الباعثة على الاطمئنان يأخذ سنوات طويلة، ومع إدراك أن المواجهة الأمنية ليست كافية، على أهميتها، مع أولئك الذين انحازوا لاختيار العنف كوسيلة لحل مشاكلهم.
ولكن الارتباك لا يزال مسيطراً على الساحة، لأنه مع دعوة فرنسا للعالم كله أن يتضامن معها، كان هناك التناقض فى إهمالها أن تقوم بدورها الذى يتسق مع دعوتها للعالم، بأن تمد يد العون للدول الأخرى الواقعة تحت نفس الخطر، أو أن تُبدِى على الأقل أنها مع مواجهة هذا الإرهاب الذى يضرب الدول الأخرى والذى عانت فرنسا منه تواً! مع الأخذ فى الاعتبار أن ما يُسمَّى التحالف الدولى لمحاربة داعش، والذى تشارك فيه فرنسا، تحوم شبهات عديدة حوله تطعن فى جديته فى محاربة داعش.
أضِف إلى ذلك أنه، ومع تضامن أوروبا الشديد مع فرنسا، إذا بالاتحاد الأوروبى أيضاً يتناقض فى موقفه إزاء جرائم مشابهة، مثل موقفه الغريب مما يحدث فى مصر، وبيانه الأخير، الأسبوع الماضى، الذى أعلن فيه عدم مشاركته فى مراقبة الانتخابات البرلمانية القادمة، وكانت تفاصيل أسبابه تتضمن الحجج التى درجوا على تكرارها، بالتعريض بموقف الشعب المصرى الذى نجح فى الإطاحة بحكم مفرخة الإرهاب فى العالم! وكان يُنتَظَر من الاتحاد الأوروبى بعد درس باريس أن ينتبه إلى خطأ اعتراضه السابق على عزل ممثل جماعة الإخوان من القصر الرئاسى، وأن يدرك جسامة الخطأ بالتهوين من خطر الإخوان، وبتكبيل مصر عن مواجهة الإرهاب الذى كان متوقعاً له أن يمتد إلى الغرب، قبل شهور من مجزرة باريس، والذى هو مرشح الآن بأن يقترف المزيد من العمليات الإرهابية.
ليس المطلوب من الغرب أن يتخذ موقفاً أخلاقياً مبدئياً، وإنما أن يقوم عملياً وإجرائياً بما من شأنه أن يدرأ أسباب وممكنات الخطر المادى الذى نجح فى اختراق مجتمعاتهم، خاصة أن الشواهِد الكثيرة تقول إن المستقبل ينبئ بالمزيد من الخطر إذا سارت الأمور على نفس الوتيرة.
أما أن تكون سياسات الغرب بعد مجزرة "شارلى إبدو"، على نفس الرؤى السابقة، فهذه جريمة فى حق بلادهم قبل أن تكون ضد غيرهم!