الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أفراح سابقة التجهيز

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 وما تلاها فى الثلاثين من يونيو عام 2013، تركز النقد والانتقاد على النظام السابق على الثورة والنظام الذى أعقب الثورة برعاية المجلس الأعلى للقوات المسلحة وكذلك نظام الإخوان عقب الانتخابات التى جرت فى تلك الفترة، تركز النقد والانتقاد فى السياسة والساسة والمسئولين والحكومة والسياسات العامة والأحزاب والقوى الثورية، وباختصار تركز النقد فى مجال وحقل السياسة وما يرتبط بها من سياسات وساسة وحكومات، وذلك بطبيعة الحال أمر مشروع ومفهوم طالما كان هذا النقد لا يستهدف إلا المصلحة العامة، وابتعد عن السباب والقذف، ولا يبتغى سوى البناء وتشخيص المشكلات والحلول، ولكننا فى غمرة ذلك نسينا أو تناسينا نقد ما يخص المجتمع والمواطن من ظواهر اجتماعية وسلوكية نشارك فيها جميعاً، بوعى أو بدون وعى، ونغذيها من حيث لا ندرى بانصياعنا للمعايير والقيم التى ترسخها، هذه الظواهر الاجتماعية، أو بالتواطؤ الضمنى والصريح معها، أو من خلال اعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حياتنا يستعصى على النقد ويصعب وضعها فى إطار التساؤل حول قيمتها وجدواها وضرورتها.
إن هذه الظواهر الاجتماعية التى تستحق النقد والتوقف عندها تفوق الحصر فى حياتنا نحن المصريون، مثل عدم احترام القوانين واللوائح والنظم فى العديد من المجالات، كالإسكان والبناء والتراخيص والمرور، وفقدان قيمة احترام العمل، وضعف الروح الجماعية التعاونية، وقلة المبادرات الفردية والجماعية، التى بمقدورها أن تحل العديد من المشكلات التى قد لا تحظى بأهمية على أجندة الدولة والحكومة، قياساً بمشكلات هيكلية عامة تتعلق بوضع مصر الاقتصادى ومستقبلها فى الأجل المنظور والطويل أو بتحديات المرحلة الراهنة فى مواجهة العنف والإرهاب واستكمال بناء مؤسسات الدولة وفق خريطة الطريق.
من بين هذه الظواهر الاجتماعية الجديرة بالنقد، تلك الظاهرة المتعلقة بالزواج والأفراح، والحرص من قبل الأغنياء ومتوسطى الحال بل وبعض الفقراء على إقامة هذه المناسبات فى قاعات الفنادق الكبرى والمتوسطة ودور القوات المسلحة وغير ذلك من القاعات التى تستأجر لمثل هذه الأغراض بتكلفة مالية كبيرة نسبياً مقارنة بمتوسط الدخول.
يتسابق الجميع فى الحرص على أن تكون أفراحهم فى مثل هذه القاعات، ويكاد يكون البند المتعلق بهذا الأمر بنداً أساسياً فى اتفاق الزواج، قبل أى بند آخر، وله الأولوية على ما عداه، ويكاد يكون السبب الوحيد المفهوم فى شيوع هذه الظاهرة هو ضيق الأمكنة والشقق المخصصة للسكن، وعدم قدرتها على استيعاب أعداد الضيوف المتوقع استقبالهم، ودون هذا السبب فالنقد واجب لكى نتبين مخاطر شيوع هذه الظاهرة وتداعياتها.
الأمر الأول الذى يوجب انتقاد هذا المسلك أن مصر عموماً وشعبها خصوصاً يمر بظروف اقتصادية صعبة للغاية، بسبب شيوع الفساد وسوء الإدارة والتوقف الجزئى للإنتاج والسياحة خلال الأعوام الأخيرة، وتراكم المشكلات الاقتصادية عبر العقود الثلاثة الأخيرة، ويتطلب ذلك الأمر نوعاً من التقشف فى الاستهلاك والاعتماد على الذات وتعزيز المدخرات الوطنية والاستثمار الوطنى، إن الاعتقاد فى أن هذه المشكلات المتعلقة بالاستثمار والادخار من مهمات الحكومة والدولة، اعتقاد ليس صحيحاً كلية، بل جزئياً، فالمواطنون بوعيهم وعزوفهم عن البذخ والاستهلاك غير الضرورى الذى يسترشد بالتقليد أى تقليد الآخرين، أو محاكاة أفراحهم والتشبه بهم، دون وعى بارتباط ذلك بالمصلحة الوطنية ومعدلات الادخار والاستثمار، يمكنهم أن يسهموا فى حل المشكلات وأن يشاركوا عبر تعديل نمط سلوكهم واستهلاكهم فى إقالة مصر من عثرتها الاقتصادية.
أما الأمر الثانى فيتعلق بنمط هذه الأفراح سابقة التجهيز، فكل القاعات المخصصة لذلك والتى تستأجر فى الغالب بأسعار مرتفعة، تمتلك أجندة جاهزة لهذه المناسبات، وتشمل هذه الأجندة فقرات معدة سلفاً من خلال محترفين، لإقامة هذه المناسبة، وتقترن كل فقرة من هذا البرنامج بتكلفة محددة، وما على العريس والعروسة وأهليهما وأقاربهما، سوى الاختيار من بين هذه الفقرات، وفق قدرتهم المالية، وينطوى ذلك أولاً على حظر مشاركة أصحاب الفرح فى اختيار الطريقة والأسلوب الذى يفرحون به فى هذه المناسبة، فهم لا يملكون سوى اختيار الفقرات المعدة سلفاً، ولا يملكون حق تحديد محتوى هذه الفقرات، وذلك يعنى بطريقة غير مباشرة مصادرة مشاعرهم وأسلوبهم للفرح، أو حرية التعبير التلقائى والعفوى والطازج الذى يمكن أن يصدر منهم من خلال تفاعلهم الوجدانى مع المناسبة.
أما ثالثة الأثافى فإن هذه القاعات وبرامجها وفقراتها المعدة للزفاف والفرح والخطوبة تصادر على طريقة المصريين التقليدية فى الفرح والزفاف والتعبير عنها عبر الأغانى الشعبية المرتبطة بهذه المناسبة، هذه الأفراح المعدة سلفاً تضعف التقاليد الشعبية المعروفة فى هذه المناسبات وتحول دون التعبير عن هذه الثقافة الفرعية التى اكتسبها المصريون وتوارثوها عبر الزمن والمتمثلة فى الأغانى والمواويل وغيرها من مفردات هذه التقاليد التى يصعب تحديد المصادر التى جاءت منها أو من قام بتأليفها ولكنها فى النهاية ناتجة عن العبقرية الجماعية للمصريين وقدرتهم المتميزة على إنتاج الفنون التى تعطى هذه المناسبات معنى ثقافى واجتماعى يفوق فى مستواه لحنا وأداء ما تقدمه تلك الأفراح سابقة التجهيز.
بالإضافة إلى ذلك فإن فقرات مثل هذه الأفراح فى هذه القاعات يصاحبها نوع من التقنية التى تساهم فى زيادة الصخب والضجيج وتحول دون الحوار بين المدعوين أو استماع بعضهم إلى البعض الآخر، ناهيك بالطبع عن تأثير هذا الصخب على مسامع المدعوين، وأصبح هذا الصخب وهذا الضجيج أحد معالم وملامح هذه الأفراح ولا تكتمل إلا بها، وفى إطار هذا الصخب الذى تحدثه هذه التقنية المضخمة للصوت يفقد الطرب معناه وقيمته وكأن الصخب فى حد ذاته أصبح هو القيمة العليا التى تجعل من مثل هذه المناسبات أفراحاً، ويرتبط الفرح بالصخب وكأنهما صنوان لا ينفصلان.
إن الانصياع لهذا النمط من الأفراح والفرح يكرس قيم المحاكاة والمباهاة وقياس المكانة الاجتماعية للمواطنين بالأماكن التى يقيمون فيها أفراحهم وما ينفقونه عليها، وليس وفق أدائهم وأعمالهم ومساهماتهم فى المجتمع، ويحول هذا الانصياع دون تدعيم قيم التميز والابتكار والأصالة والتعبير المستقل والمتميز وتعزيز الثقافة الشعبية التى تميز بها المصريون والتعالى عليها، وكأن هذا التعالى يزيد من قيمة أصحابه ويعلن عن دخولهم العصر الحديث.
المؤكد أن المطلوب ليس بطبيعة الحال مصادرة مشاعر الفرح والسرور خاصة فى مناسبات الزواج والخطوبة، ولكن التفكير فى الأسلوب والطريقة التى يتم بها ذلك من خلال البحث عن القيم والثقافة الأصيلة التى تتميز بالتلقائية والعفوية والتعبير الحر كبديل لتلك الأفراح سابقة التجهيز والتى تخلو من الروح والعفوية وتميل إلى الاحتراف والتسويق.